صفحات المستقبلمحمد دحنون

اللعب في الوقت الضائع!

 

محمد دحنون

ضئيلة جداً ذاكرتي، وذاكرة غالبية الأصدقاء حول ألعاب طفولتنا. لا يحيل الأمر إلى عدم وجودها؛ فهذا مستحيل. غير أنّ ضمور تلك الذاكرة قد يقول أشياء عن الطبيعة الاجتماعية لتلك المرحلة؛ مرحلة اللعب: الطفولة.

لا يشكّل الأصدقاء عيّنة تمثيليّة عن المجتمع السوري بالطبع. لكن ما يمكن أن يجعلهم عيّنة «معياريّة» هو شمول ذات الشروط الاجتماعيّة للأغلبيّة الساحقة من السوريين، وتحديداً منذ مطلع ثمانينيات القرن المنصرم؛ أيّ تماماً في بداية «عقد الرعب».

تشارك أطفال سوريا ألعاباً واحدة في العموم. ألعاب متقشفة، لا تتطلب سوى أدوات بسيطة، هي الألعاب التي يمكن وسمها بألعاب الشوارع: «الكلال»، «الغازول»، «الدوش»، «القاموع» (هذه تسميات إدلبية للألعاب وتختلف عن تسميات باقي المحافظات). عدا عن تلك التي لا تحتاج إلى أدوات بل إلى القليل من الذكاء والكثير من النشاط والحيّويّة: «الطميمة»، «اللئة»…الخ.

كان الصنف الأوّل من الألعاب ممنوعا داخل المدارس. إذ يشتمل بعضها (الكلال مثلا) على بُعد تجاري، عمليّة ربح وخسارة ماديّة. لكنّها في الأصل كانت ممنوعة لأنّها بالفعل ألعاب…»شوارعجيّة»! بمعنى ما، هي ألعاب متفلتة من الرقابات: العائليّة والمدرسيّة والحزبيّة أيضا، ينسبها هؤلاء إلى أبناء «الرعاع»: الشرائح الاجتماعيّة الأكثر فقراً؛ هذا ما يجعلها مرفوضة ويجعل من ممارستها سبباً للنفور. لهذا السبب، وربما لغيره، كان هذا الصنف من الألعاب، هو المفضّل لدى الكثيرين للقيام به في المدرسة: لعبٌ ممزوج بالتمّرد.. هل ثمّة ما هو ممتع أكثر من ذلك؟!

في المدرسة البعثيّة ليس ثمّة ألعاب. ليس هنالك أدوات للعب. باستثناء تلك المتعلّقة بحصة التربيّة الرياضيّة أو الموسيقيّة. حتى هذه كانت تقتصد في جانب المتعة منها. ثمّة مدرّس، وإن كان غير متجهّم أو قاس، إلاّ أنّه سيحافظ على صورته هذه داخل الطفل خلال عمليّة «التنشئة» على الطريقة البعثيّة. تنشئة قبل أن تكون عملية متصلة بـ«غسيل الأدمغة»، هي مزيج من الضجر والجديّة الهائلة التي قد تتكثف بالنسبة لطالب الصف الأوّل الابتدائي (ست سنوات)، بترديد شعار: «عهدنا أن نتصدى للامبريالية والصهيونية والرجعيّة، وأن نسحق أداتهم المجرمة، عصابة الأخوان المسلمين العميلة!».

جوّ الجديّة هذا الممزوج بضجر لا محدود، عدا عن حالة «الانضباط العسكري» المترافقة مع الخوف الدائم والكفيلة بسحق روح اللعب، أيّ الحريّة، شكّل النقيض المباشر لما يمكن اعتباره جوّ اللعب المثالي: الكثير من الخفّة مع الكثير من الامتلاء بلحظة اللعب والحريّة بالطبع.

ثمّة حميميّة ضروريّة موّجهة حيال من يقوم بإدارة عمليّة اللعب، لا تكتمل هذه إلاّ بتلك. لكن نادراً ما شعر الطالب السوريّ بحميميّة تجاه أساتذته، حتى أولئك المعنيين مباشرة بأمر لعبه. يتحوّل اللعب، والحال هذه، إلى شكل من أشكال الهرب إلى المجموعة، احتماء بها وليس تفاعلا أو انتماء لها. وتتحوّل ممارسة «ألعاب الشوارع» إلى نوع من الانتقام اللاواعي: تتحقق متعة اللعب دون تفتّح للإمكانيات وللقدرات. هي إذا متعة مجانيّة لا تساعد الطفل على التحليق؛ على إطلاق العنان لمخيلته. تقتصر غاية اللعب، في شروط كهذه، على الهرب من أن يكون المرء وحيداً لا أكثر.

من جهة أخرى، يبدو أن أقصى حدود اللعب، في هذا النمط من الأنظمة التربويّة، هو التمرّد، الذي يأخذ في تلك المرحلة العمريّة صورة مخففة تُدعى: المشاغبة. بالنسبة لعموم السوريين، تبقى «مقالب المشاغبة» الذاكرة الحيّة وتقريباً الوحيدة التي يحتفلون بتردادها عن أيام الطفولة والمدرسة. يجتمع في المشاغبة عناصر كفيلة بجعلها أكثر الألعاب متعة في الشرط السوري: الشجاعة، الذكاء، والضحك. مزيجٌ يخلق التهكم والسخريّة أي الحالة المضادة لكلّ ما رغبت عملية «غسيل الأدمغة» بصنعه. وعليّه، يبدو أن لعبة السوريين الأثيرة، والتي تستحق اعتبارها «اللعبة»، خلال الوقت السوري الضائع المقدّر بأربعة عقود هي: السخريّة من السلطة وحسب!

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى