اللغة السورية
محمد كريشان
للمصريين مثل معروف يقول إن فلانا تحدث بلغة ‘ لا تــــوّدي ولا تجيب’ أو أنه قال ‘أي كلام’، فيما يقول الفرنسيون إن هذا الرجل ‘تكلم لكي لا يقول شيئا’. لا شيء ينطبق عليه هذا الوصف مثل الكلام الدائر حاليا على لسان المسؤولين الدوليين حول سورية. آخره ما قاله كل من المبعوث العربي والدولي الأخضر الإبراهيمي ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في موسكو فهو من نوع الكلام الذي لن تستطيع أن تخرج منه لا بحق ولا بباطل.
لنبدأ بالإبراهيمي، أي فائدة يمكن أن تـُـجنى عمليا من قوله إن ‘الوضع صعب ويزداد سوءا’ فهل يخفى هذا على أحد؟!! وكذلك قوله بأنه لا توجد حاليا خطط لإرسال بعثة لحفظ السلام إلى سوريا ‘وما يجري فقط هو التخطيط تحسبا لحدوث وضع طارئ في البلاد’ وكأن موت عشرات الناس يوميا وتشردهم وقصف المدنيين بطائرات الميغ وبراميل الموت من المروحيات وسقوط بيوت المدنيين على رؤوس ساكنيها يدخل في سياق العادي من التطورات!! ثم لنرى قوله بأن ‘سوريا مهمة جدا، ويستحق شعبها الحصول على دعمنا وسنواصل بذل كافة الجهود وسنستعد للتعاون مع جميع اللاعبين في الخارج والداخل من أجل خفض مستوى العنف ووضع حد له’،، كلام لا يسمح السياق السوري الدرامي باستحضار ما قاله عادل إمام في مسرحية ‘شاهد ما شافشي حاجة’ عندما قال كلاما عقـّـب عليه رئيس الجلسة هازئا : ‘نـــوّرت المحكمة !!’.
كلام لافروف لا يقل فراغا وتسويفا.. فهو يقول إن حربا تدور رحاها في سوريا في الوقت الذي تزداد فيه وتيرة العنف (لم نكن ندري ذلك من قبل !!) معربا عن استعداد بلاده لمواصلة القيام بمسؤولياتها (ما هي بالضبط؟!) . ويضيف بأن ‘ مهمتنا الرئيسية في هذه المرحلة هي حث كل السوريين المتناحرين على وقف إطلاق النار والجلوس إلى طاولة المفاوضات’ في حين أن وقف إطلاق النار هذا لم يقف ولا ليوم واحد على رجليه منذ ما يقرب من عشرين شهرا والكل يعرف أن الحكومة في دمشق هي من يتحمل المسؤولية الأكبر في ذلك.
يبدو أن الكلام أُعطي للإنسان لإخفاء أفكاره أكثر منه للتعبير عنها،،، هكذا قال أحد الفلاسفة في القرن الثامن عشر لأن لا شيء عمليا ومحددا يمكن أن تخرج به من تصريحات غائمة وحتى مضللة كالتي سردنا البعض منها. الأدهى أن هذين المسؤولين الدوليين البارزين ليسا الوحيدين ممن بات يدمن هذا النوع من اللغة التي لا تقدم ولا تؤخر. مثل هذه اللغة المراوغة التي تقول ولا تقول صارت هي اللغة الدولية المعتمدة عند الخوض في الشأن السوري، بدءا ببان كي مون ‘المحبط’ الذي لا حول له ولا قوة، وصولا إلى باراك أوباما ووزيرة خارجيته، مرورا بكل رؤساء الديبلوماسية الأوروبية. لغة تعكس عجزا رهيبا عن القيام بأي شيء في سوريا وفي نفس الوقت إحجاما أكثر قسوة عن الاعتراف بذلك.
هذه ‘اللغة السورية’ تكاد تشبه في مواصفاتها ‘اللغة الفلسطينية’ التى اعتمدها من قبل المبعوثون الدوليون والأمريكيون طوال عقدين تقريبا . لغة تقول ولا تقول، لا تريد أن تغضب أحدا ولا تريد أن تقول صراحة للأعور في وجهه بأنه أعور وتفضل عليها صيغة بأنه قد يكون من الأنسب له أن يزور عيادة طب العيون. لغة يجب أن يجد فيها كل طرف جزءا مما يحب وليس كله، وأن يكون ما يغضبه فيها غير فاقع ولا مباشر، فيعتبر نفسه ببساطة غير معني به. لغة تبدع في العموميات وتهرب من الدقة حتى تكاد تكون للثرثرة أو حتى السفسطة أقرب منها لأي شيء آخر. ملك هذه اللغة هو بلا منازع مبعوث اللجنة الرباعية المعنية بالشرق الأوسط توني بلير (ما زلت تذكرونها وتذكرونه؟!!) ومن قبله كان المبعوث الأمريكي دنيس روس. غاب هؤلاء وأمثالهم عن الساحة وما زالت المسألة الفلسطينية تغرق وتطفو في ذات المربع والخوف أن يصيب السوريون بفعل هذه ‘اللغة السورية’ ما أصاب الفلسطينيين من قبل. إن شاء الله لا.
القدس العربي