اللغة اليومية السورية/ روجيه عوطة
من الأقوال المأثورة جداً
“دخلك بالعجقة، شو أخبار الزميل ماركس؟”. هذا السؤال طرحه “أبو أحمد الزربلي”، وهو أحد السوريين الذين تستخدم صفحة “شعارات راسخات” أقوالهم اليومية، محولة ً إياها إلى لافتات فنية، تنشرها في “فايسبوك”. إذ تختار الصفحة عبارات رائجة على ألسنة مواطنين، كي تقدمها كشعارات مأثورة، لا بد من تسجيلها وحمايتها من التلف. ذاك أنها تستمد قيمتها من سياق الوجع السوري، الذي رغم اتساعه، وسقوط الكثير من الضحايا فيه، إلا أنه لا يزال قادراً على السخرية، وعلى الضحك للتغلب على الألم. كما لو أن الإبتسامة هي المخرج من المجزرة التي لا يتوقف القاتل البعثي عن ارتكابها أينما حضر، وأينما غاب.
تجمع “شعارات راسخات” الجُمل الشعبية التي تتهكم على الواقع، وتستهزئ بكل مصائبه وكوارثه، مغيرة ً إياها إلى موضوع من مواضيع الإستخفاف والتلميح الطريف. فتصبح التعليمات التي يعطيها الضابط للجندي على الحاجز، أو في المركز العسكري، قولاً من الأقوال المأثورة: “اجمعلي أسماءهم الثلاثية، وحطلي كل الخانات ع ورقة منفصلة”. كأن هذه العبارات حكمة اجتماعية، أو حديث منقول ينطوي على غاية معينة، تماماً كالأمثال والسيّر الشعبية التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من العادات والتقاليد. بالتالي، تؤكد صفحة “شعارات راسخات” أن تلك الأقوال، التي تصيرها لافتات، ستشكل قسماً من الموروث اللغوي، الذي يصنعه السوريون اليوم، ويتناقلونه من لسان إلى آخر. وفعل التداول الشفهي هذا، “ترسخه” الصفحة من خلال الكتابة الشعاراتية، حفاظاً عليه من الفقدان أو النسيان.
من الفم إلى اللافتة إذاً، تنتقل العبارة المحلية كي تصبح شعاراً متضمناً لمعنى ثوري، أو بالأحرى واقعي، لا سيما أنها مأخوذة من اللغة اليومية.
فـ”الحج ممدوح”، الذي نجهل هويته، لا نعرف عنه سوى قوله: “لو ما عامل شي ما كانوا شحطوه”. إذ يبدو كأن القائل هنا هو من الموالين للنظام السوري، بحيث أنه يبرر القبض على أحد المواطنين. وبسبب تكرار هذا العبارة التبريرية، وانتشارها في الكلام الموالي للبعث قصداً أو خوفاً، تحولت إلى “حكمة مأثورة”. ويُضاف إليها قول آخر، لا شك في أن كلاً منا سمع أحد الموالين للنظام يردده مراراً وتكراراً، للدفاع عن الديكتاتور بشار الأسد: “هو منيح، بس الحواليه عاطلين”. هذا، وتنسب الصفحة العبارات الأخيرة إلى “جيم كيري، كوميدي سابق”، كما لو أنها تسخر من هشاشة “الحكمة” الموالية، ولا منطقيتها بعد مرور أكثر من عامين على القتل والإبادة في البلاد.
تتعدد الشعارات التي ترفعها الصفحة، وتختلف بحسب مصادرها. فـ”أم ربيع الخياطة” تقول: “الله يهدي النفوس”، و”بياع الفلافل” يردد أن “الشنكليش عدو الإمبريالية الأول”، أما “جارنا عبيدة الممرض”، فينصح كاتب اللافتة: “عم توجعك بطنك؟ ركّ ع الجنتماسين”. كما يعبّر بعض اللافتات عن الركون إلى الرغبات الذاتية، المعوية على وجه الدقة، واستخدامها في وجه السلطة. إذ أن “جارنا أبو عبدو التح” يقول: “يعيش المكدوس، وتسقط الديكتاتوريات”. ومن “الشعارات الراسخات” أيضاً، اعتراض أحدهم على لفظ إسمه بلا أن يُشار إلى أستذته: “بينفسخ حنكك إذا قلت أستاذ؟”.
من خلال هذه الشعارات الراسخة، التي تنشرها الصفحة “الفايسبوكية”، تتحول العبارات الشعبية إلى لافتات من الواقع، يرفعها المواطنون في لغتهم للتعبير عن أنفسهم. إذ أن الجُمل والأقوال المرددة على ألسنتهم تتيح لهم التواصل بشكل أو بآخر مع بعضهم البعض، رغم أن اللغة تبدو عاجزة في أحيان كثيرة عن تحقيق التفاعل بين السوريين، خصوصاً في هذه الفترة الدموية. إلا أن ذلك لا ينفي أن المجتمع السوري يكتشف لغته اليومية، وقد يؤدي هذا الإكتشاف الثوري إلى صياغة العلاقة بين اللغة ومتكلميها من جديد، كي تناسب واقعهم، وتلائم تلك الأوجاع التي تضنيهم، فيسخرون منها، ويستهزئون بعوارضها “المأثورة” أيضاً.
رابط الصلة:
http://on.fb.me/1f1Qgd7