الليبرالية “الجديدة”
الليبرالية “الجديدة”(1- 4)
التطور التاريخي لليبرالية الكلاسيكية
في خضم التحولات التي يشهدها عالمنا العربي والإسلامي، يحتدم الصراع والنقاش الفكري بين الليبراليين من جهة والإسلام السياسي من جهة أخرى. هذا الصراع الفكري لا يختزل بالطبع غنى وتنوع الأفكار السياسية والإيديولوجيات الأخرى في مجتمعاتنا، لكنها تعبر عن الانقسام السياسي الأقوى والأعمق. فيما يخص الأفكار القومية واليسارية والإسلامية، ليس هناك من نقص في الكتابات والأبحاث والنقاشات. الملفت للنظر، أن هناك شح استثنائي في ما يخص الفكر الليبرالي، ويصار إلى اختزاله إلى أفكار اقتصادية تبسيطية. تهدف هذه المقالات إلى تسهيل النقاش الفكري والعلمي بين مختلف التيارات الفكرية، علنا نساهم في تعزيز النقاش الحضاري والمساهمة في بناء حوار وطني جاد يعزز من مكانة السياسة والثقافة في حياتنا.
كاترين اودارد
ترجمه عن الفرنسية: ميشال أ. سماحة()
“يجب علينا ابتكار حكمة جديدة لمرحلة جديدة” (Keynes) جون ماينارد كينز- 1925.
“بما أنّ الليبرالية تعطي أهمية كبيرة للتجربة، أدى ذلك إلى تقويم مستمر لأفكار الفردية والحرية، هذه الأفكار التي ترتبط بشكل وطيد بالتغييرات المؤثرة في العلاقات الاجتماعية” (John Dewey) جون ديوي، في مستقبل الليبرالية- 1935.
بين العام 1880 و 1920، ظهر حدث بارز في تاريخ الأفكار السياسية، يمكن أن يشكل عبرة للأزمة المعاصرة ومساهمة في تفسير الإخفاق الذي يصيب الأفكار الليبرالية. في الواقع، فإن الإيمان بفاعلية الأسواق راح ينهار تحت أثر الأزمة المصرفية عام 2008. ولكن، هل كان ذلك يشكل دائماً عنصر الأساس وحجر الزاوية لليبرالية؟
عرفت الليبرالية الكلاسيكية في نهاية القرن التاسع عشر أزمة كبيرة شبيهة بالتي نعيشها حاليا. فكما هو الحال الآن، تبدو الأفكار الليبرالية، التي قامت الحكومات المحافظة بتبسيطها واختصارها ووضعها بإطار محدود جداً يقوم على المدافعة عن آليات السوق وعن سياسة دعه يعمل(Laisser-faire) ، غير قادرة على المساعدة في حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي ساهمت (وكما يبدو) هي في خلقها. كما هو الحال الآن، يسود الاعتقاد بان البديل الوحيد المتوفر، هو تدخل الحكومات في الحياة الاقتصادية على حساب الحرية.
ولكن ما يهم في الأمر، هو أنه بدلا من اندثارها تحت وقع الهجمات التي تعرضت لها، أعادت الليبرالية هيكلة نفسها بين عامي 1880 و 1920 وراحت تبحث عن العلاج للأزمة الإقتصادية والإجتماعية للثورة الصناعية الثانية. الملفت للنظر لدى مراقبتنا الدقيقة لتاريخ الليبرالية، هو أنه وبعيدا عن اختصارها بحرية الأسواق، فإن مفكري الليبرالية “الجديدة” سيقومون بإعادة هيكلة وتعزيز هذه المعتقدات الأساسية، بالإضافة إلى تعزيز وتعميم مبادئ تتعلق بالحرية الفردية وقيم المسؤولية الإجتماعية والتضامن والمساواة والصالح العام عن طريق كل أوروبا وصولا حتى إلى الولايات المتحدة الأميركية. هذا النموذج الليبرالي(Paradigme) هو ما نسعى لدراسته في الوقت الحالي، فضلاً عن الدروس الإيجابية التي يمكننا استخلاصها. ونظراً الى أنَ قدرتها على التحول والتطور مغذاة بالحس النقدي وبالخبرة العملية، تماماً كفلسفة الحرية التي ترفض كل انغلاق في أي إطار كان، يمكننا المراهنة والأمل في إمكانية إعادة إنتاج شكل جديد من أشكال الليبرالية بعيدا عن ادعاءات ومبالغات النيو-الليبرالية كالمغالطات التاريخية والدوغمائية التي تنميها الاشتراكية المعاصرة في أوروبا.
أزمات وتراجع الليبرالية الكلاسيكية
“يكمن العيب الرئيسي لليبرالية في عدم قدرتها على الإحاطة بالنسبية التاريخية (…). فالفرد هو عبارة عن ذرة (حسب مفهوم نيوتن)، على علاقة خارجية مع باقي الأفراد (…)هذا الشكل من أشكال الليبرالية تحول وأنتج ليبرالية زائفةPseudo-libéralisme (…) لتصبح بذلك فلسفة دعه يعمل Laisser-faire تعبر عن منطق وقانون طبيعي ” (John Dewey, Liberalism and Social Action, 1935).
هذه المقولة للفيلسوف الأميركي جون دوي تصف جيداً تطور الأفكار الليبرالية في مطلع القرن العشرين. خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، بدت الليبرالية قوة سياسية مهيمنة في أوروبا الغربية. انتصرت في إنكلترا مع قانون الإصلاح لعام 1832(Reform Act, 1832) الذي وسع حق الاقتراع. إبتداءً من العام 1939، حركة حداثوية وداعمة لحرية التجارة (Libre-échangiste) تعصف بالطبقة السياسية الإنكليزية مدعومة من الطبقات الوسطى، التجارية والصناعية المعادية للأرستقراطية العقارية Aristocratie) (Foncière مدعومة أيضا من الكنائس البروتستانتية غير المحافظة. بدأت فرنسا ابتداء من العام 1830 مع غيزو (Guizot) بتبني الوجهة الإنكليزية للملكية الدستورية، كما هي الحال أيضاً في ألمانيا، مع تقدم وانتشار الحزب الليبرالي. أما في الولايات المتحدة الأميركية فإن الإجماع حول لليبرالية بين الحزبين الكبيرين، يعود إلى تاريخ انتصار لنكولن عام 1861 و نهاية حرب الانفصال، ومنذ ذلك الحين لم يتغير الواقع.
بدأ الوضع يشهد بعض التغير مع نهاية القرن التاسع عشر. فدخلت الليبرالية الكلاسيكية في فترة من التراجع والانحدار بحيث بد أنّ ليس هناك علاج لمشاكلها. ابتداءاً من العام 1880، بات واضحاً بأن الأحزاب الليبرالية أصبحت غير متأقلمة ومنسجمة مع حقيقة المجتمع الحديث. فأنقسم الحزب الليبرالي الإنكليزي، أوسع الأحزاب نفوذا، انقساما قوياً، إلى ليبراليين “محافظين” أو الويغزWhigs، أتباع مدرسة مانشستر أرثوذكسيي حرية التجارة والامبريالية الاستعمارية من جهة، والليبراليين “المعتدلين”، والليبراليين “الراديكاليين” أو الإصلاحيين الذين دعموا التشريعات الاجتماعية، التي ستبصر النور عام 1906 بفضل دعم العمال، ومساندة حكومة لويد جورج الليبرالية، من جهة أخرى. فالحزب العمالي الذي تأسس عام 1893، وكان في البداية حليفاً لليبراليين، سوف يأخذ مركز الصدارة بعد الحرب العالمية الأولى ليصبح بذلك التشكيل السياسي الثاني في المملكة على امتداد القرن العشرين. وبدا أنّ الاشتراكية هي الإيديولوجية السياسية الوحيدة التي تحمل أملا بمستقبل واعد بعد عام 1918.
ما هي الأحداث التي أدت لتراجع الليبرالية الكلاسيكية، والتي أدت إلى ابتكار لليبرالية “الجديدة”؟
بداية، ستواجه الليبرالية الكلاسيكية نمو الديمقراطية الانتخابية، وانتشاراً تدريجياً للاقتراع العام في معظم الديمقراطيات الغربية الكبيرة، مما شكل تحدياً لها خصوصاً، أن لديها ارتياب تقليدي من الديمقراطية. خصوصاً وأن الليبرالية ستواجه تحولات الرأسمالية الصناعية والاستغلال العنيف للطبقة العاملة. تحولات ستدفع بالأخيرة إلى تنظيم نفسها بتناقض تام مع الأولى. لم تكن الليبرالية الكلاسيكية جاهزة للتعامل مع حالة الصراع الطبقي الناشئ، هي التي كانت تتصور المجتمع كشركة قائمة على التعاون السلمي والتبادل الذي يصب في مصلحة الجميع. إن الشروط الاجتماعية والاقتصادية والسياسة الجديدة لرأسمالية القرن العشرين، والوحشية والظلم الذين رافقا الثورة الصناعية الثانية، وانعدام الإنسانية لشروط العمل الجديدة كما وصفها وليم بليك ب (Satanic Mills- Fabrique du diable, William Blake)، اقتربت أكثر فأكثر من الدكتاتورية منها إلى مثالية عالمِ التجارة المسالم (Le doux Commerce) الذي شكل مصدر وحيٍ لليبراليي القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر.
في الفترة الأولى، أي بين عامي 1880 و1914، ظلت الليبرالية في انكلترا تغذي الصورة المثالية للرأسمالية ولوظيفتها، وظلت تحلل المجتمع الجديد الذي يتكون أمام أعينها، من خلال نفس المنهج الفردي. لم تدرك الليبرالية الطبيعة الخطيرة للضغوطات التي تمارسها الشركات المتعددة الجنسيات الكبيرة والمجتمع الرأسمالي التنافسي حيث العمل أصبح بحد ذاته سلعة، كما ولم تدرك تنامي الصراع الطبقي. ستقوم الليبرالية بالاهتمام برعايةwelfare الطبقة العمالية، متدخلةً بالقطاعات التي كانت من شأن العمل الخيري الخاص. فكان عليها إيجاد حلول وردود سريعة على التحديات التي طرحتها الماركسية والاشتراكية.
لكنَ إدراك المشكلة أتى متأخرا، فالنتائج الاجتماعية والاقتصادية للحرب العالمية الأولى ولأزمة عام 1929 ستضع نهايةً لأوهام الليبرالية. جميع جهود ألفريد مارشال(مبادئ الإقتصاد السياسي1920) وتخليه عن المالتوسية(Malthusianisme) وأطروحات ريكاردوRicardo ، وإصراره على أهمية المستوى المعيشي العادل للعمال لتفادي الأزمات الاقتصادية، كل ذلك تخطته الأحداث، مثلها مثل الجهود التي نراها اليوم في أوروبا والتي تسعى لبناء تحالفات بين الليبراليين من جهة والعمال أو الاشتراكيين من جهة أخرى. انفجر التوافق الاجتماعي للحقبة الفيكتورية مؤكداً حقائق الصراع الطبقي ومعطياً الحق للماركسية وللإيديولوجيات الثورية. فالوقت لا يرحم، ولم يعد الوقت، وقت الإصلاح.
لم يعد الرأسماليون والعمال يتقاسمون القيم نفسها، مع تخطي الواقع للإيديولوجية الليبرالية التي استمرت تؤمن بمحورية دور الفرد. فدخلت الليبرالية بذلك في أزمة عميقة بالغة التعقيد مع انسداد الأفق.
مصدر الوحي لليبرالية “الجديدة”: جون ستيوارت ميل John Stewart Mill
وبشكلِ متناقض، حيث بدت الليبرالية فيه قوة من الماضي داخل أزمة لا أفق لها، بدأت الليبرالية تشهد تحولاً جذريا من ناحية أخرى. ففي كتاباته الأخيرة عن الاشتراكية، تطرق جون ستيوارت ميل إلى حقوق المرأة وعن الحكومة التمثيلية(Gouvernement représentatif) ، وفي فلسفته عن التنمية الذاتية كما وعن التقدم الاجتماعي، حيث نجد مصادر المنظومة الجديدة لليبرالية(Nouveau paragidme) .
ميل و”الفردية”
بداية التغيير عند ميل بدأت مع تطوير وتغيير مفهوم الفردية المجردة(Lindividualisme abstrait) ومفهوم الفرد الثابت والذري (Lindividu statique, atomisé) ،إلى فردية دينامكية وتاريخية واجتماعية(Individualité) ، هي نتيجة تطور وصيرورة من التشكل والتمكين (Processus dindividuation et dautonomisation) . هذا المفهوم قام على بعدين: أولا أنّ الفردية(individualité) هي هدف ومشروع أكثر مما هي حالة ثابتة (état) ،هو مشروع تكوين الذات (, De la libertéعن الحرية، 1859). يعتبر ميل الفرد كائناً في تقدم وتحولٍ دائمين (être de progrès) .
البعد الثاني يتمثل بأن الفرد لكي يتطور ويعبر عن نفسه، هو بالضرورة بحاجة إلى الآخر: فهو كائن اجتماعي. على عكس الفردية الكلاسيكية، فالمفهوم الجديد يدخل العنصر الاجتماعي والعلاقة مع الآخر (الفرد والمؤسسات) في صلب مفهوم “الفردية”، سامحا لها بالتطور. إلا أنّ هذه العلاقة ليست علاقة حتمية وميكانيكية وعمياء.هنا يفهم المجتمع حسب نموذج التطور الفردي: هيكلياته ومؤسساته ناجمة عن التقاء وتوازن مثل الصراع بين مشاريع إنسانية (بطبيعتها إنسانية)، مشاريع جلية ولكن غير قابلة للتنبؤ. بالنسبة إلى ميل، ليس هناك من شيء ميكانيكي و”طبيعي” في “التقدم”. فالتقدم ليس مسيرة لا رجعة فيها نحو هدف واحد ومحدد، ولكنه نتيجة قرارات إنسانية معقدة.
ميل و”الحرية”
كما حَول ميل مفهوم الليبرالية الكلاسيكية للحرية. بالنسبة له، لا تكمن الحواجز أمام “الحرية” فقط من خلال القيود المفروضة مباشرةً من “الآخر” ولا بسبب العلاقات بين الأفراد أنفسهم أو بسبب فقط سوء استخدام سلطة الدولة، ولكنها تكمن أيضا، وبطريقةٍ غير مرئية، في الشروط الاجتماعية نفسها للوجود الفردي كما وفي اللامساواة في السلطات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. الحرية إذاً تفترض معرفة هذه العناصر والشروط الاجتماعية. سيوضع علم الإجماع الناشئ وعلم التاريخ في خدمة التحرر الإنساني. التوقف عن اعتبار وتفسير “الحرية” على أنها صفة “طبيعية” للفرد (ألما قبل اجتماعي -Présocial) وتحويلها لمفهوم علائقي واجتماعي ووضعي (Positif) يشمل وسائل وحرية الحركة كما والوصول إلى المصادر الاجتماعية، التي بدونها لا يمكن للفرد أن يحقق ذاته. إذاً ميل لا يختصر الحرية الفردية بحرية السوق/الأسواق فقط، ولكنه يدعو إلى تدخل السلطات العامة لمساعدة المهمشين، ويقبل بالأطر التي تنظم حقوق الملكية مع وضع حدود وضوابط، مطالباً بفرض ضريبة على التركة/الميراث، ومؤيداً الحركة التعاونية الناشئة.
ميل في الديموقراطية والاشتراكية
التحول الذي ادخله ميل إلى المفهوم الليبرالي للحرية الفردية سيشكل قاعدة لإعادة تأهيل جزئية للديمقراطية، ببعدها الأخلاقي(éthique) ، كالمجتمع الذي يصبو للخير العام ولسعادة الجميع. مجتمع يسمح بتنمية أفضل لطاقة كل فرد، من خلال احترام المساواة في الفرص(égalité des chances) من خلال مبدأ الديموقراطية القائمة على الكفاءة (Méritocratique). بشرط إعادة تعريف الحرية ليس على أنها حق مجرد وإنما على أنها العنصر الأساسي للوصول للسعادة وبهدف تحقيق الذات، والفردية (Individualisme)على أنها تحقيق لاجتماعية الفرد (Individualité)، وتصبح الديموقراطية بذلك النظام الأنسب لتحقيق القيم الليبرالية والتعبير عنها.
إذا، فالفكر الاجتماعي لميل وتناغمه مع الإشتراكية في نهاية حياته، ومدافعته عن الحركة التعاونية، سيحدث تأثيراً بالغاً على الليبرالين الجدد. تُثبت كتابات ميل عن الاشتراكية تأثراً أكثر فأكثر بتطور الاشتراكية، وبضرورة إيجاد ليبرالية جديدة، أكثر اجتماعية، وأكثر وعيا لضرورات التضامن والعدالة والمساواة في عالمٍ متغير، عالم يسوده اللامساواة حيث أصبح التعاون فيه أمراً مستحيلاً والفقر بتزايد مستمر. ولكن كيف الوصول لذلك دون تدخل كبير للدولة في الوجود الفردي، الأمر الذي يشكل لعنة بالنسبة للتقاليد الليبرالية؟
“إن المشكلة المطلوب إيجاد حل لها، هي ذات طبيعة استثنائية وعلى أهمية عالية من الحساسية: كيف يمكننا إعطاء المساعدة الأقصى، من خلال خلقنا لحد أدنى من التبعية لهذه المساعدة” (ميل في مبادئ الاقتصاد السياسي،الكتاب5، الفصل 6). فرغم وعي وإدراك ميل للمشكلة، إلا أنّ أسئلته بقيت من دون جواب، وستقع مسؤولية وتحدي تشكيل نموذج جديد مترابط ومقنع على عاتق خلفائه.
LEconomie politique, FRANCE, No44-2009
www.leconomiepolitique.fr
Rédacteur en Chef: M. Christian Chavagneux
Catherine Audard: Quest-ce que le libéralisme? Ethique, Politique, Société-Paris, Gallimard-2009
() استاذة فلسفة السياسة والاخلاق في معهد لندن للاقتصاد
الليبرالية الجديدة (2ـ4): من ليبرالية الأحزاب إلى ليبرالية الأفكار
في خضم التحولات التي يشهدها عالمنا العربي والإسلامي، يحتدم الصراع والنقاش الفكري بين الليبراليين من جهة والإسلام السياسي من جهة أخرى. هذا الصراع الفكري لا يختزل بالطبع غنى وتنوع الأفكار السياسية والإيديولوجيات الأخرى في مجتمعاتنا، لكنها تعبر عن الانقسام السياسي الأقوى والأعمق. فيما يخص الأفكار القومية واليسارية والإسلامية، ليس هناك من نقص في الكتابات والأبحاث والنقاشات. الملفت للنظر، أن هناك شحاً استثنائياً في ما يخص الفكر الليبرالي، ويصار إلى اختزاله إلى أفكار اقتصادية تبسيطية. تهدف هذه المقالات إلى تسهيل النقاش الفكري والعلمي بين مختلف التيارات الفكرية، علنا نساهم في تعزيز النقاش الحضاري والمساهمة في بناء حوار وطني جاد يعزز من مكانة السياسة والثقافة في حياتنا.
Catherine Audard
Professeur de Philosophie Politique
Et Morale à la London School of Economics
ترجمه عن الفرنسية: ميشال أ. سماحة
(باحث اقتصادي اجتماعي)
في أي وجهة سيذهب هذا التحول داخل الليبرالية نفسها؟ فقبل كل شيء، انتقلت ساحة المعركة من نطاق الممارسة السياسية إلى نطاق الأفكار. تحولت الليبرالية من كونها قوة سياسية إلى قوة فكرية وأخلاقية متخطية حجم تمثيلها السياسي. صحيحٌ أنها لم تعد تشكل قوة سياسية مهمة ابتداء من العام 1848 ولكنها راحت تغذي العمل السياسي لأحزاب اليسار واليمين المعتدلة في كل أنحاء أوروبا والولايات المتحدة. هذا التيار التجديدي حمله وغزاه منظرون وكتاب وجامعيون، بعضهم كان أحيانا من رجال السياسة. لكنهم عموماً بقوا في المعارضة، أوفياء لوظيفة نقض الليبرالية.
الليبرالية “الأخلاقية”(Le libéralisme éthique): إنكلترا
في إنكلترا، التوافق السياسي بين الليبرالية والاشتراكية، استطاع المقاومة والصمود أكثر مما فعل في أي مكان آخر. تجد الاشتراكية الإنكليزية منابعها الأخلاقية في الليبرالية المعتدلة بخاصة وفي البروتستانتية الليبرالية وتحديداً الميثودية (أو المنهاجية وهي طائفة مسيحية بروتستانتية ظهرت في القرن الثامن عشر في المملكة المتحدة على يد جون ويزلي)، وليس في الماركسية، ما يفسر لماذا لا يدخل هذا المفهوم في خلاف مع الليبرالية ولماذا الليبرالية “الاجتماعية” ليست متناقضة معه. كون الليبرالية الجديدة نتاج عمل الفلاسفة والاقتصاديين، فإن التناغم بين الكفاءة الاقتصادية والإصلاحات الاجتماعية ستشكل نقطة التقاء مشتركة.
من أهم مفكري الليبرالية الجديدة هو بالتأكيد الفيلسوف توماس هيل غرين(Thomas Hill Green) من جامعة أكسفورد، بحيث أن تعاليمه سيكون لها تأثير كبير على كامل الطاقم السياسي لتلك الحقبة. من دون أن ننسى كينز Keynes نفسه الذي يستوحي من أفكاره دون الإتيان على ذكره أبدا. طور غرين(Green ) أفكار ميل ولكنه ذهب أبعد منه في شجب ظلم “حرية التعاقد” وحرية الاقتصاد، فأطروحته حول طبيعة الفرد الاجتماعية قريبة جدا من أطروحة معاصره دوركهايم(Durkheim) . فهو يؤكد أن الرابط الاجتماعي لا ينجم عن التعاقد على طريقة لوكLocke ، ولا عن نفعية( Utilité )على طريقة بينتام(Bentham) ، ولكنه ناجم عن اعتراف متبادل بالآخر كغاية بحد ذاتها وعلى اعتبار مصالح الآخرين مكملة ومكونة للمصلحة الشخصية والذاتية. أنتقد الفردية الذرية للقرن الثامن عشر، واستبدل رؤية ميل للفردية التي تتطور وتصقل بفضل مساهمة المستمرة للآخر. فأسس لحق الفرد، تجاه المجتمع الذي يدين له بوسائل تحقيق الذات(Potentiel) ، تحقيقاً أساسياً وضروريا لرفاهية وتقدم الجميع. بعد أرسطو وهيغل، أطلق غرين اسم “الخير المشترك”(Bien commun) على التفاعل بين المصلحة الفردية والمصلحة المشتركة وأساس “للأخلاق والالتزام السياسيين”.
يُعتبر غرين مصدر أساسي للعديد من الابتكارات في البرنامج الليبرالي. فقد ميز أولاً وبطريقة جذرية بين الحرية “السلبية” لليبرالية “القديمة”، القائمة على الحقوق الفردية، وبين الحرية “الإيجابية” لليبرالية “الجديدة” تلك المتعلقة بالحقوق المستوجبة (Droits-créances) والوسائل الاجتماعية والاقتصادية التي يتوجب على المجتمع تأمينها للفرد لتمكينه من تطوير وتحقيق ذاته. دفع وطور غرين النقاش حول الحرية الإيجابية والحرية السلبية، الموضوع الذي أصبح مسألة مركزية في الإيديولوجية الليبرالية للقرن العشرين. فأعاد التأكيد على الطبيعة الاجتماعية للفرد، ليكون تطوره مرتبطاً بالآخرين والمجتمع وما يقدمونه له. أخيرا، توسع في انتقاد الليبرالية الاقتصادية، وأكد على أن السوق هو مؤسسة اجتماعية كغيرها من المؤسسات التي يجب تنظيمها وتقنينها كي تعمل لما فيه مصلحة الجميع ولكي لا تكون في مصلحة أقلية ما. كما ذهب بعيدا في فكره النقدي الاجتماعي، وخلص إلى إعطاء شرعية لتدخل الدولة وعلى حقها في إصدار تشريعات في مجالات التعليم والصحة العامة والملكية الخاصة وقانون العمل لتقليص الآثار السلبية للحرية الفردية.
في أعقاب مقاربة غرين، قام ليونارد ت. هوبهوز(Leonard T. Hobhouse) ، الذي أنضم إلى حزب العمال، بإدانة الليبرالية الاقتصادية التي تقود إلى توسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، واقترح سياسة ضريبية صارمة على أرباح الشركات. كما ودافع عن دور الدولة المطلوب منها تنظيم الحياة الاجتماعية، ودعم فكرة أن الإصلاحات الاجتماعية تتوافق واحترام الفرد. فالمواطنة الجديدة يجب أن تشتمل على الحقوق الاجتماعية وليس فقط الحقوق السياسية. فاقترب أكثر فأكثر من الأجواء العمالية ومن أفكار الجمعية الفابية( Fabian Society ) وهي جمعية إنكليزية أنشئت في عام 1884 وسعى أعضاؤها إلى نشر مبادئ الاشتراكية بالوسائل السلمية وسميت كذلك نسبة إلى فابيوس كونكتاتورد، وهي جمعية ما تزال موجودة حتى الآن).
هذه الحركة الفكرية اختلفت بالتأكيد عن السياسات التي مارسها وتبناها الحزب الليبرالي للويد جورج وتشرشل، ولكن التأثيرات تقاطعت رغم ذلك. بين العام 1906 و 1911، وتحت ضغط نواب حزب العمال، ستكون حكومة لويد جورج المسؤولة عن أولى الإجراءات الاجتماعية في إنكلترا، مع نظام التقاعد للمسنين الفقراء(1908) والتأمين ضد البطالة للعمال المزارعين الأكثر فقراً(1911)، جاعلين بذور دولة الرفاه الاجتماعي تنبت في الليبرالية الجديدة وليس في الاشتراكية.
الليبرالية “الجمهورية”: فرنسا
في فرنسا، ستتميز الليبرالية الجديدة بصفاتٍ مختلفة نظراً للإرث الراديكالي للثورة الفرنسية، ولسقوط وفشل الليبرالية عام 1848، كما ولتوالي الأنظمة الدكتاتورية والوضعية الحديثة لمؤسسات الحرية التي يعود تاريخها فقط إلى الجمهورية الثالثة. لن تُعرِّف نفسها أبداً وبصورة علنية وواضحة كليبرالية ولكن ستقدم نفسها على كونها “راديكالية” أو “اشتراكية إنسانية” إلخ. علما أنَ التيار الجمهوري الليبرالي كان له وجود في فرنسا خلال تلك الفترة كباقي دول أوروبا الغربية.
عرفت الليبرالية الكلاسيكية في فرنسا صعودها خلال فترة قصيرة ومحدودة، وخاضت أولى تجاربها أثناء الملكية الدستورية من العام 1814 وحتى العام 1848 ، مع الأب سييس( Labbé Sieyès)(1748-1836)، وبنيامين كونستان( Benjamin Constant) (1767-1830) وغيزو( Guizot) (1787-1874) وتوكفيل ( Tocqueville) (1805-1859). هذا التطور ارتبط بصعود الطبقات الوسطى الصناعية والتجارية، الذين يؤيدون حرية الأسواق، ودولة القانون(Rule of Law) والمساواة في الفرص، ولكنهم يرفضون باسم المسؤولية الفردية دور الدولة كأداة لإعادة توزيع الثروة. الليبراليون الفرنسيون يتقبلون لعبة السوق وسياسة ال(Laisser-faire) أكثر بكثير مما نعتقد، لكن خلال فترة تاريخية قصيرة. فهم بالطبع يعارضون السلطة الاستبدادية والمركزية، كما يعارضون اليعقوبية(Jacobinisme) والرجعيون الذين يتمنون عودة الدكتاتورية الملكية. لكنهم سرعان ما أُجبِروا على إقامة تحالف مع العدو، كحلف غيزو والمتشددين، وإبتداءً من العام 1848 سيتحولون إلى الأوساط الجمهورية، والدولة المركزية والاستبدادية وسيبتعدون عن القيم الليبرالية. ستشهد بعد ذلك الجمهورية الثالثة تطور تيار ليبرالي واجتماعي شبيه بالتيار لليبرالي الجديد في إنكلترا، وبداية إصلاحات اجتماعية من عمل الحزب الراديكالي(الجمهوري والليبرالي) وفلسفته الجديدة القائمة على التضامن( Solidarisme). ولكن ابتداء من العام 1910، انحرف التيار الراديكالي نحو اليمين وأصبحت الأفكار الليبرالية متعارضة وغير منسجمة مع الاشتراكية (التي أصبحت القوة السياسية الصاعدة).
الليبرالية “التقدمية”: الولايات المتحدة
أدت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في الولايات المتحدة، في نهاية القرن التاسع عشر، بالليبراليين إلى إعادة النظر في مفاهيم التوافق الاجتماعي والى تأسيس الحركة “التقدمية”(Progressivism) ، التي جمعت حولها النخب الثقافية والسياسية قبل الحرب العالمية الأولى. هذه الحركة أعادت النظر في العمق بالليبرالية الكلاسيكية على غرار ما كان يحدث في أوروبا.
أما الممثل الأهم للتقدمية الأميركية ولليبرالية الجديدة كما وللأخلاقية-الديمقراطية الجديدة والعادلة فكان الفيلسوف جون ديوي(1859-1952). كما يجب ذكر هيربير كرولي(Herbert Croly) (1930-1869) مؤسس تيار “الجمهورية الجديدة” داخل الحركة، ومروجه ولتر ليبمان( Walter Lippmann) (1889-1974). في المحصلة، الكل استلهم أفكاره من فلسفة ويليام جيمس(William James) (1842-1910). استقر ديوي بكل وضوح على يسار الليبراليين الإنكليز “الجدد” كالجمهوريين “الليبراليين” الفرنسيين وانتقد بشدة الليبرالية الكلاسيكية. لقد اعتبر هذا الأخير أن الدولة هي عدوه في حين أن الدولة ضرورية لضمان الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية. لقد خاض حرباً ضد الفردية الذرية باسم المسؤولية الاجتماعية. تأثير ديوي على “المجتمع الكبير” للينودن جونسون(Lyndon Johnson) سيكون بغاية الأهمية ويشرح لماذا مفهوم “الليبرالية” في الولايات المتحدة منذ ذاك الحين سيصبح مرادفاً “للاشتراكية”. شكل الفيلسوف ريتشارد رورتي(Richard Rorty ) (1931-2007) طليعة مؤيدي التقدمية الجديدة “كقصة وطنية” (grand récit) جديدة وكبيرة للولايات المتحدة.
إلا أنَ التيار التقدمي الأميركي لم يكن سوى حقيقة وواقع للمفكرين، وكان نجاحه مرتبطاً بدعم رجال سياسة من الصف الأول. إن انتخاب احد كبار هؤلاء المثقفين توماس وودرو ويلسونThomas Woodrow) Wilson)(1856-1924)، أستاذ العلوم السياسية في جامعة برينستون، لرئاسة الولايات المتحدة، سجل مفصلاً في تاريخ الليبرالية. معجباً بألمانيا وببيسمارك(Bismarck) ، اعتقد ويلسون أن الوقت قد حان للتخلي عن الإطار الدستوري وعن الفلسفة القائمة على فصل السلطات، واستبدالها بإدارة فعالة ومستقلة عن السلطة التشريعية لخدمة رفاهية الجميع والازدهار الاقتصادي. إن الصفقة الجديدة(New Deal) ،التي كانت موضوع الحملة الانتخابية للحزب الديمقراطي عام 1932 وانتخاب فرنكلين روزفلت عام 1933، هدفت بشكل صريح وعلني إلى وضع أفكار “التقدمية” موضع التنفيذ، هي وأفكار ويلسون أيضا: وهو دور اجتماعي جديد للدولة خدمة الخير العام. لم يكن برنامج روزفلت عام 1944 إلا عبارة عن برنامج الليبرالية “الاجتماعية” و”التقدمية”، الذي يعطي الأولوية إلى دولة الرفاه الاجتماعي Welfare State وإلى مكافحة الفقر.
الليبريسم (Le libérisme) والاشتراكية الليبرالية: إيطاليا
لا شك أن وضع إيطاليا هو الأكثر ملائمة وتماشيا مع النقاشات المعاصرة. فالنقاش بين بينيديتو كروتشي Benedetto Croce ولويجي إينوديLuigi Einaudi في ما يخص الفرق بين الليبراليةLibéralisme والليبرالية الاقتصادية “liberismo”، والمعطى الجديد الذي تحمله “الاشتراكية الليبرالية” لليبرالية “الجديدة”، ما زال نقاش حاضر ومتواصل.
بين نهاية العام 1920 وعام1930، قام الفيلسوف الإيطالي بينيديتو كروتشي (1866-1952)، مؤسس الحزب الليبرالي الإيطالي، والاقتصادي لويجي إينودي (1874-1961)، والذي سيصبح لاحقا حاكم المصرف المركزي الإيطالي ورئيس الجمهورية عام 1948، قام الاثنان بتبادل مجموعة من الأفكار والنقاشات الفكرية حول مفاهيم الليبراليةLibéralisme والليبرالية “الاقتصادوية”Libérisme . بالنسبة إلى لويجي، الليبراليون الاقتصادويونLibéristes هم هؤلاء الذين يعتقدون بأنَ مبدأ “دعه يعمل دعه يمر” هو مبدأ عالمي، رغم أن هذا المبدأ لا علاقة له بالعلوم الاقتصادية”. الليبراليون الاقتصادويون مثلهم مثل الليبراليين المعادين لوجود الدولة (Anarcho-Capitalisme) ، توصلوا حتى إلى استنتاج مفاده أن أزمة 1929 هي نتيجة مباشرة للتدخل المفرط للدولة! لكن وبما أنَ الفرق قد اتضح بين الاثنين، استعادت الليبرالية أبعادها الأخلاقية والسياسية، واليوم أصبحت تقريبا مختلف أحزاب يسار الوسط ويمين الوسط الإيطالية تقدم نفسها على أنها أحزاب ليبراليةLibéraux ، لا ليبرالية أقتصادوية Libéristes (قمنا باعتماد مفهوم “الاقتصادوية” مكان( Léconomisme et le libérisme) الذي يأخذنا الى النظرية الاقتصادية الأرثوذوكسية ونظرتها إلى السوق وآلياته). في حين تتقبل الليبرالية الدور التنظيمي للدولة، تعتبر الليبرالية الاقتصادوية أن السوق ينظم نفسه وباستطاعته إيجاد التوازن الأفضل، وأن كل تدخل للسلطة العامة هو أمر سيئ بالتأكيد.
في إيطاليا، التيار الذي رفض وعارض بصرامة “الليبريسم” هو تيار الاشتراكي الليبرالي. مؤسس هذه الفلسفة السياسية، الإيطالي كارلو روسيلليCarlo Rosselli ، مناهض الفاشية والذي يريد “إعادة الحركة الاشتراكية لمبادئها الأولى ولأصولها التاريخية والنفسية، وإثبات أن الاشتراكية، في التحليل النهائي، هي فلسفة الحرية”. عارض روسيللي، الذي أسس مجموعة المقاومين للعدالة والحرية(Giustinzia e Libertà)، عارض الماركسية رافضا علمويتها (من العلم Scientisme) واقتصادويتها، ومؤكدا أن الاشتراكية هي في الحقيقة “النمو المنطقي لمبدأ الحرية المدفوع حتى حدوده القصوى. أخذا بمعناها الجوهري وتبعا لنتائجها، فإن الاشتراكية (كحركة تحرر جدية البروليتاريا) هي ليبرالية الحركة (أو حركية)، وهي الحرية التي يمكن توفيرها للأكثر فقراً”. على الحرية أن تكف عن كونها قيمة للنخبة فقط، وأن “تكون قادرة للوصول إلى حياة الناس الفقراء”.
LEconomie politique, FRANCE, No44-2009
www.leconomiepolitique.fr
Rédacteur en Chef adjoint: M. Christian Chavagneux
Catherine Audard: Quest-ce que le libéralisme? Ethique, Politique, Société-Paris, Gallimard-2009
الليبرالية “الجديدة”(3/4) : المفاهيم الجديدة لليبرالية
في خضم التحولات التي يشهدها عالمنا العربي والإسلامي، يحتدم الصراع والنقاش الفكري بين الليبراليين من جهة والإسلام السياسي من جهة أخرى. هذا الصراع الفكري لا يختزل بالطبع غنى وتنوع الأفكار السياسية والإيديولوجيات الأخرى في مجتمعاتنا، لكنها تعبر عن الانقسام السياسي الأقوى والأعمق. في ما يخص الأفكار القومية واليسارية والإسلامية، ليس هناك من نقص في الكتابات والأبحاث والنقاشات. اللافت للنظر، أن هناك شحاً استثنائياً في ما يخص الفكر الليبرالي، ويصار إلى اختزاله إلى أفكار اقتصادية تبسيطية. تهدف هذه المقالات إلى تسهيل النقاش الفكري والعلمي بين مختلف التيارات الفكرية، علنا نساهم في تعزيز النقاش الحضاري والمساهمة في بناء حوار وطني جاد يعزز من مكانة السياسة والثقافة في حياتنا.
Catherine Audard
Professeur de Philosophie Politique
Et Morale à la London School of Economics
ترجمه عن الفرنسية: ميشال أ. سماحة
(باحث اقتصادي اجتماعي)
الصراعات الجديدة
ما هي نتائج التحولات التي أصابت الفكر الليبرالي (التي استعرضناها في المقالين السابقين) بين العام 1880 و1920؟
بروز مفهوم جديد للفرد وللمجتمع
التحول الأول يتعلق بوعي “الطبيعة الاجتماعية” للأفراد وذلك تحت تأثير علم الاجتماع الناشئ.
سيصار إلى التخلي تدريجياً عن التصورات المجردة عن فرد كما وعن مفهوم حقوقه الطبيعية الـ”ما قبل اجتماعية” (Présociaux).
تحت تأثير هيغل، ستتطور الفكرة القائلة إن الحقيقة الاجتماعية هي حقيقة أخلاقية حيث تختلط فيها الروح(Esprit-Geist) الفردية بالروح الجماعية. من أهم دروس lesprit- Hegel, 1807) (Phénoménologie de “فنومينولوجيا الروح” (ظاهريات الروح أو علم ظهور العقل كما ترجمها مصطفى صفوان-1980، دار الطليعة- بيروت) هو أنه من المستحيل فصل التنمية الشخصية عن التنمية الاجتماعية. هنا الحتمية الاجتماعية لا تأخذ الشكل الميكانيكي والمادي والتبسيطي التي نجدها عند ماركس. إن تأثير هيغل مسؤولٌ أيضاً عن التاريخية(Historicisme) التي تتسم بها الليبرالية “الجديدة”. وفي الواقع، فإن دراسة التطور التاريخي لليبرالية تمكنه من فهمٍ أفضل للعلاقة بين الفرد والمجتمع. تاريخياً، تشكلت حقوق الأفراد كمعطى اجتماعي وليس كملكية فردية أو طبيعية ما “قبل اجتماعية”. هذه الحقوق لم تأتِ جامدة وثابتة مرة واحدة ونهائية في طبيعةٍ إنسانية، ولكنها كانت نتيجة وخلاصة مكاسب سياسية.
مفهوم وضعي جديد للحرية
انطلاقاً من ذلك، بلور توماس هيل غرين (Thomas Hill Green)” الفارق الشهير بين (freedom from) الحرية كاستقلالية من القيود، والحرية الناشطة (freedom to) القائمة على الاستقلالية الذاتية(autonomy) وعلى حرية الفعل والحركة. هذا الفارق هو حاسم ودقيق، لأن العوائق التي تواجه الحرية، لا تتشابه في الحالتين. ففي الحالة الأولى، العائق يتأتى من السلطة الاستبدادية والسلطة السياسية والدينية ومن القيود بشكل عام. في الحالة الثانية، العائق هو في غياب وسائل الفعل والقدرة على تحقيق وإنجاز مشاريع كالتي يصبو إليها الفرد في حياته. يمكن للفرد العيش في إطار مؤسسات الحرية، والمعاناة من نقص في الحرية في حال لم تتوفر شروط اجتماعية واقتصادية ضرورية لتطوره: مثل التربية، الصحة، السكن، والأجر اللائق، إلى آخره. فبالنسبة للحرية، الحقوق الاجتماعية والاقتصادية هي على القدر من الأهمية مثلها مثل الحريات الشخصية والسياسية. “الحرية لا تصبح حقاً من حقوق الفرد إلا إذا كانت لازمة اجتماعية” (هوبهوز 1911Hobhouse ). حول هذه النقطة تحديداً، ستندلع نقاشات قاسية وعاصفة مع الليبرالية الجديدة طوال القرن العشرين، وستُعلن نيوليبرالية حايكHayek أخطار الليبرالية “الجديدة” في كتاب طريق العبودية (1944La Route de la servitude-)، حيث يسأل حايك: أين هو الفرق إذاً بين هذه الأخيرة والاشتراكية؟
المفهوم الرعائي الجديد (welfariste) للديموقراطية
يتعلق التحول الثالث بالديموقراطية، حيث سيجري تحرك مزدوج من خلال: “دمقرطة” الليبرالية و”لبرلة” الديموقراطية التمثيلية.
يجب التذكير بأن الارتياب من “السلطة السياسية”(Le Pouvoir Politique) ، إن أتى ذلك من سلطة الملك المطلقة أو من الشعب، هي قاعدة تأسيسية وحجر الزاوية لليبرالية. كان هناك ميل عند الليبرالية إلى رؤية الخطرٍ الكامن في الديموقراطية أكثر من رؤية التطور الذي طال الحريات، وأخذ الحيطة والحذر منها. غياب السلطات المقابلة contre-pouvoirs التي تحمي الحريات الفردية، أدى إلى انحرافات في الثورة الفرنسية وشكلت تهديداً للديموقراطية من قبل “طغيان الأكثريات”، حسب وصف ميل. أدرك ميل كما توكفيل، أن التطور في عملية دمقرطة (La démocratisation) المجتمع والمؤسسات السياسية لا يمكن فرملته. مهمة المستقبل تكمن إذاً في دمقرطة/ ديموقراطية الليبرالية.
يصار الى انقاذ الديموقراطية في نظر الليبرالية، من خلال تطور وتغيير في أهدافها، التي لم تعد حكم الشعب “من قِبَل” الشعب بل حكم الشعب “من أجل” الشعب. وهكذا يصبح بالإمكان “لبرلة” الديموقراطية بتنقيتها من أبعادها الشعبوية والديماغوجية وباعتبارها الوسيلة الفضلى لتحقيق قيم الليبرالية: الدفاع عن الفرد وعن حقه في حياة سعيدة، فصل الحيز الخاص عن الحيز السياسي، وضع ضوابط للسلطة السياسية، إظهار مسؤولية القادة تجاه ناخبيهم، حرية التجارة والسوق، إلى آخره. أصبح من السهل على الليبراليين الإجابة على المطالب الجديدة للعمال في ما يتعلق بالمساواة وبالحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وذلك في اطار احترام مبادئ الحكم الدستوري، مقاومين في الوقت نفسه التهديدات الخطيرة والاستثنائية التي تطرحها الاشتراكية والشيوعية من جهة، والتيارالمحافظ من جهة أخرى.
هنا أيضاً، سيشكل ميل، من خلال محاولته التوليفية بين الليبرالية والنفعية(utilitarisme) ، الربط والأساس لليبرالية “الجديدة”، التي ستقوم بإيجاد أربعة تبريرات للديموقراطية.
قبل كل شيء، الليبرالية تشكل تبريراً أخلاقياً للدفاع عن الديموقراطية. فهو النظام الوحيد الذي بوسعه تحقيق “السعادة الأقصى لأعضاء المجتمع، السعادة الأقصى للجميع من دون استثناء، عندما يكون ذلك ممكناً” (بينتامBentham-)، كونه النظام الأكثر شمولاً والذي يتطلب موافقة الجميع. أولاً وقبل كل شيء، تسمح الديموقراطية بحل المسألة الاجتماعية المتعلقة بتناقض المصالح (conflits des intérêts) بطريقةٍ غير تسلطية ومنسجمة مع حقوق الفرد. في حين أن الحرية تقسم الكائنات البشرية بالسماح للمواهب الموزعة بشكل غير متساوي بالازدهار، ما يسبب تعميق اللامساواة الاجتماعية، في حين السعادة بمعناها الواسع توحد. الديموقراطية هي النظام الوحيد الذي يتصور الخير العام كإرضاء وتلبية لمصالح الجميع وليس كتحقيق لخير أعلى وخارج (supérieure et extérieure) عن الرعاية. في النهاية إذا كان الأفراد هم الحكم الوحيد والأوحد لمدى ومستوى سعادتهم، يصبحون مهتمين ومنتمين أكثر لمؤسساتهم إذا جلبت تلك الأخيرة الرخاء لهم، ولكنهم أيضاً سيكونون وفي الوقت نفسه، حريصين عليها ويراقبونها عن قرب.
إن هذا المفهوم الرعائي للديموقراطية، المعدل والمطور، سيقود المفكرين الليبراليين إلى إعادة النظر في أحكامهم وإلى التصالح مع المثل الديموقراطية المتعلقة بالمساواة والتضامن. إن الايديولوجية الرعائية (welfariste)، وتحت تأثير العلوم الاجتماعية والاقتصادية، هي التي ستقنع الليبرالية بحسنات وايجابيات الديموقراطية. يبقى السؤال في معرفة أذا ما كانت الليبرالية ستخطئ، مبالغة في التفاؤل، مفضلة الحلول الاجتماعية والاقتصادية على الحلول السياسية والدستورية الكلاسيكية: رخاء متزايد، انتشار أوسع للثروة والتملك والارتقاء بالمستوى المعيشي، بوجه الانحراف ومخاطر الديموقراطية. من هنا اذاً، يأتي الاعتقاد الإشكالي بأن الرخاء الاقتصادي والديموقراطية يسيرون بالتوازي جنباً إلى جنب.
من مساواة في الحقوق إلى مساواة في الفرص
في أي إطار ودلالات إذاً، أصبحت الليبرالية اجتماعياً ديموقراطية وبالتالي مساواتية(égalitariste) ؟
بالنسبة لليبراليين الكلاسيكين، فإن المساواة بالحقوق أو المساواة أمام القانون، هي المفهوم الرئيسي الذي يتيح حماية الفرد “كشخصية قانونية” (sujet de droit): شخصية بالنسبة للقانون كما ولديها حقوق. ستُغني الليبرالية الجديدة هذا المفهوم القانوني وتحوله، بعد أن كان مفهوماً شكلياً وثابتاً للمساواة.
لقد أصبح المفهوم الرئيسي متعلقا “بتكافؤ الفرص”(égalité des chances) ، مما يعنيه من مساواة في الوصول إلى الموارد(égalité daccès aux ressources) ، الذي يتعارض مع المفهوم الذي تدافع عنه الاشتراكية وهو المساواة في الموارد(égalité des ressources) . إنها سياسة تنظر إلى المستقبل وتريد تصحيح نقطة الانطلاق في الحياة بغية ترك الحرية للأفراد في عملية التنافس على مستوى المواهب والقدرات الذاتية، بدلاً من تصحيح نتائج قراراتهم لاحقاً، وتعويض الخسائر ومعالجة اللامساواة التي حلت، مثلما هي الحال مع الاشتراكية، التي تتنكر وتتجاهل فكرة المسؤولية الفردية.
يشتق مفهوم تكافئ الفرص من التعريف الذي أدخله ميل عن الحرية كحرية “تطوير وتنمية الذات”. لم تعد الفردية(individulalité) وتنمية الذات، على صراع وخلاف مع المجتمع الذي يوفر، مثلما عبر عنه التضامن الفرنسي(solidarisme français) ، العناصر الضرورية للتطور والتقدم الفردي: تربية، مشاركة، حماية اجتماعية، إلى آخره. لم يعد الفشل الفردي كما كانت الحال في العصر الفيكتوري، دليلاً على غياب السمات “الشخصية/الطبع” وعلى غياب النية والإرادة الفردية، بل أصبح دليلاً على سوء التنظيم المجتمعي، الذي يمكن معالجته عن طريق رفع مستوى التضامن، جاعلين من المساعدة الاجتماعية حقاً من حقوق الفرد كما يقول ليون بورجوا(Léon Bourgeois) . إذاً، كانت سياسات مكافحة اللامساواة الإجتماعية والاقتصادية المرتبطة بالولادة، بالبيئة الاجتماعية وبالعائلة، لا تهدف الى مساواة في الشروط، بل الى تحرير المواهب الفردية ومساعدتها على تنمية ذاتها من أجل خير المجتمع وصالحه العام، فهذه السياسات إذاً تكون متوافقة ومنسجمة مع الليبرالية. الصراع ضد اللامساواة يجب أن يواجه الامتيازات الاجتماعية للولادة والنشأة وللرأسمال الموروث، وعليه الترويج لفكرة الصعود الاجتماعي بفضل المجهود الشخصي والعمل الكاد والجرأة والسمات الشخصية: إنه الربط مجدداً مع الأسطورة الليبرالية الكلاسيكية. تبقى الليبرالية “الجديدة” إذاً ليبرالية وليس نسخة معدلة عن الليبرالية الاشتراكية.
مفهوم جديد للدولة
لكن التحول الأكثر إثارةً ودهشة للأفكار الليبرالية يتعلق بالدولة. في الواقع قاعدة من قواعد الليبرالية “الكلاسيكية” ستنهار مع الليبرالية “الجديدة”: إلا وهي مقاومة تدخل الدولة وعدم الارتياح لها كلاعب اقتصادي. إذا كانت الليبرالية الكلاسيكية تتسم بإعطاء أهمية استثنائية لحماية الأفراد ضد تدخلات الدولة التعسفية والاعتباطية، بالمقابل تتسم الليبرالية الجديدة بالمراهنة على قدرة الدولة على التصرف لمصلحة الجميع. من كونها تهديداً، أصبحت الدولة قوة للخير بقدراتها، بحيث أصبح دورها يكمن بتلبية حاجات مواطنيها: فتصبح الرفاهية (Le bien-être) مسؤولية الحكومة. من هنا نجد أن الليبرالية الجديدة هي سلف دولة الرفاه الاجتماعي(LEtat-providence) .
سيمتد نطاق عمل الدولة الآن ليشمل كل القطاعات التي كانت خارج سلطتها القضائية. تستدعي الليبرالية الجديدة تدخل الدولة بالاقتصاد لتدجين الإفراط السلبي للرأسمالية والسوق. لم تعد مهمة الدولة تقتصر على حماية الأفراد ومنع انتهاك حريتهم، بل أصبحت مهمتها تحقيق سعادتهم من خلال العمل على تقوية الاستقرار الاقتصادي وضبط السوق العالمي. من هنا كانت أفكار كاينزKeynes مستوحاة بقدر كبير من الليبرالية “الجديدة”. كما أنَ التدخلات في المجال الخاص والمجتمع المدني أصبحت مقبولة: العائلة (سياسات ديموغرافية)، الصحة والتعليم، البطالة، الشركات وعلاقات العمل ونقابات العمال، إلى آخره…
استناداً الى ذلك، شكل هذا المفهوم الجديد للدولة تبريراً لوجود وسائل جديدة لوظيفة الدولة الإدارية(LEtat administratif)، ما يعني تطور وكالات الخبراء غير المنتخبين لحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية. وبدأنا نرى إذاً تخلٍ عن العقيدة الليبرالية التي ترفض مبدأ تفويض السلطات(non-délégation des pouvoirs) التي تسمح بظهور وكالات إدارية مستقلة (مثل الضمان الاجتماعي في كل من فرنسا وانكلترا ومؤسسات ادارة وضبط الأسواق المالية في الولايات المتحدة الأميركية). إنه يتعلق بالسلطات غير المنتخبة التي تقع تحت إدارة السلطة التنفيذية، من دون وجود قدرة لدى النواب على تقييمها إلا في حالة الأزمات. زيادة ونمو حجم وتأثير بيروقراطيات الدولة غير المسؤولة أمام المواطنين أتت بالتوازي مع زيادة ضخمة للبيروقراطية في الاتحادات والشركات المتعددة الجنسيات العملاقة، مما سيشكل مجددا تهديداً لليبرالية.
LEconomie politique, FRANCE, No44-2009
www.leconomiepolitique.fr
Rédacteur en Chef adjoint: M. Christian Chavagneux
Catherine Audard: Quest-ce que le libéralisme? Ethique, Politique, Société-Paris, Gallimard-2009
الليبرالية الجديدة (4/4): التأثيرات والتداعيات النظرية
في خضم التحولات التي يشهدها عالمنا العربي والإسلامي، يحتدم الصراع والنقاش الفكري بين الليبراليين من جهة والإسلام السياسي من جهة أخرى. هذا الصراع الفكري لا يختزل بالطبع غنى وتنوع الأفكار السياسية والإيديولوجيات الأخرى في مجتمعاتنا، لكنه يعبر عن الانقسام السياسي الأقوى والأعمق. فيما يخص الأفكار القومية واليسارية والإسلامية، ليس هناك من نقص في الكتابات والأبحاث والنقاشات. الملفت للنظر، أن هناك شحاً استثنائياً في ما يخص الفكر الليبرالي، ويصار إلى اختزاله إلى أفكار اقتصادية تبسيطية. تهدف هذه المقالات إلى تسهيل النقاش الفكري والعلمي بين مختلف التيارات الفكرية، علنا نساهم في تعزيز النقاش الحضاري والمساهمة في بناء حوار وطني جاد يعزز من مكانة السياسة والثقافة في حياتنا.
Catherine Audard
Professeur de Philosophie Politique
Et Morale à la London School of Economics
ترجمه عن الفرنسية: ميشال أ. سماحة
(باحث اقتصادي اجتماعي)
إن تأثير الليبرالية “الجديدة” كان دوماَ شديد الأهمية، رغم عدم الاعتراف والإقرار بذلك دائماً.
كاينز Keynes والليبرالية “الجديدة”
بداية، ورغم تأثر كاينز بالليبرالية “الجديدة” إلا انه بقي ليبرالياً بالرغم من كل شيء. إنه في الواقع لخطأ تاريخي اعتبار كاينز معارضاً لليبرالية الاقتصادية بسبب من دعمه للسياسات التدخلية. فهو وان عارض بعض نسخ الليبرالية، الدوغماتية منها والمحافظة، التابعة لمدرسة مانشستر وللحزب الليبرالي في بداية القرن العشرين، أو التوجهات الاقتصادية “الارثوذكسية” للخزينة (الذي خاض معه العديد من الصراعات)، إلا انه بالطبع لم يعارض الليبرالية “الجديدة”، لا بل كان يكملها.
يمكننا القول بداية، أن كاينز أنجز وأكمل الصيغة/النموذج(Paradigme) لليبرالية الجديدة معطياً للدولة الإدارية التبرير الأخير الذي كانت تفتقده: الخبرة والتخصصية الاقتصادية وليس فقط الاجتماعية، مثل دولة بسمارك الاجتماعية في ألمانيا أو في الولايات المتحدة مع الرئيس وودرو ويلسونWoodrow Wilson. بحسب كاينز، فإن الفقر والمشاكل الاجتماعية سببها الحوكمة الاقتصادية السيئة، وضعف القدرات وسوء إدارة الحكومات للاقتصاد، كما و”حماقتهم” كما كان يردد غالباً، مشيراً إلى المشاكل العديدة التي واجهها مع مسؤولي الخزينة ومع مؤيدي وداعمي السوق وحرية التجارة(Free Market) بأي ثمن. سيسمح علم الاقتصاد الجديد بحل الأزمات الاقتصادية مبدلاً المتغيرات، وذلك من خلال إطلاق الطلب(La demande) عبر الاقتراض، جاعلاً الدولة تتدخل لتنفيذ ذلك، من خلال سياسات تقوم على تبني وتنفيذ مشاريع كبيرة، من وحي الاقتصاديين الأميركيين غير الأرثوذكسيين (Institutionnalistes)، وذلك حتى قبل كاينز.
ما فعله كاينز كان عملية استكمال أكثر مما هو عملية تغيير لليبرالية الجديدة بهدف إدخال أفكار جديدة، كالمخاطر والمجهول والتوقع واحتساب الاحتمالات، ناهيك عن أهمية ظواهر الاقتصاد الكلي(Macroéconomiques) . كما قام كاينز بلفت النظر بشأن التشابه (ومع قليل من الغرور)، بين النظرية النسبية لأينشتاين، التي تضم وتستوعب معادلات نيوتن كظاهرة فريدة صالحة للسرعات(Vitesses) الادنى من السرعة الضوئية، وبين نظريته العامة التي تضم وتستوعب المفاهيم الكلاسيكية والنيوكلاسيكية للإقتصاد الليبرالي كحالات فريدة.
يمكننا أن نلاحظ أنه وبنتيجة واقعيته وتوجهه العملي والتجريبي، يعلن وبكل فخر: “عندما تتبدل الوقائع، أبدل وجهة نظري”. لذا تابع كاينز تطوير الليبرالية الجديدة (كبديل للسياسة الحمائية التي يتبناها قسم من اليمين وكبديل أيضاَ لسياسات التدخل وإعادة توزيع الثروة التي يتبعها اليسار) من خلال تطوير إمكانيات التحكم بالدورات الإقتصادية والسياسية “للعمل” ومشجعاً بالوقت نفسه النمو الإقتصادي. يضيف كاينز عامل الإستقرار الإقتصادي الكلي الى البرنامح الليبرالي ما قبل الحرب ليعطيه الأولوية الأولى. بالنسبة له، الإستقرار القصير المدى للرأسمالية هو أكثر خطورةً من اللامساواة على المدى الطويل في سوء توزيع الثروات والعائدات. أكبر العلل والأمراض الإقتصادية هي المخاطرة(Risques) ، المجهول والشك وضعف المعرفة. ودور الدولة يكون في تقليصها من خلال سياستها النقدية والإستثمارات في المشاريع الكبيرة والبنى التحتية الإجتماعية، إلى آخره. قام كاينز بنقل مشكلة العدالة الإجتماعية من المستوى الميكرو-اقتصاديMicro إلى مستوى الإقتصاد الكلي(Macro) . أصبح الظلم والغبن الاجتماعيين مشكلة مخاطر مستقبلية وغياب القدرة على التنبؤ (incertitudes): العدالة أصبحت عملية القدرة على التنبؤ التعاقدي(prédictibilité contractuelle) . بعكس ما نعتقد عموما، يلعب عنصر إعادة توزيع الثروة دوراً صغيراً في فلسفة كينز الإجتماعية حيث يكون آلية إستقرار للإقتصاد الكلي وليس وسيلة لغايات مثالية.
المقاومات ما بعد 1970:
هايك ورولزHayek et Rawls
حتى نهاية فترة الثلاثين سنة المجيدة(les trente glorieuses) ، ظلت الليبرالية الجديدة بشكلٍ أو بآخر موضوع إجماع. اجماع حول دولة الرفاه الإجتماعي. وهي أثرت بطريقة غير مباشرة في جميع الأحزاب السياسية المعتدلة. ولكن إبتداءً من 1970 أصبحت الليبرالية الجديدة هدفاً لنقد مزدوج، سيشكل تحدياً حقيقياً لها.
منذ الثلاثينات، وفريدريش هايك يحارب مفاهيم كاينز الإقتصادية. وبمحاربته لها، كان يحارب التواطؤ بين الليبرالية الجديدة والإشتراكية. يُظهر كتابه الأكثر رواجاً (عام 1944) “الطريق الى العبودية”، بطريقة مقنعة مخاطر تدخل الدول في الادارة الإقتصادية، في حين أنه ليس لدى الدول الوسائل الإدراكية والمعرفية(cognitifs) ، ذلك أنّ هذا التوجه يتطلب سلطة خطيرة، كانت الأنظمة الشيوعية المثال الأكثر تعبيرا عنها. هناك احتراس وخوف تقليدي بالسلطة السياسية من قبل الليبرالية، وبالنسبة الى حايك، فشلت الليبرالية الجديدة في احترام افكارها الكبرى الاساسية. إن الأزمة الإقتصادية في نهاية السبعينيات وإنهيار حائط برلين، سيسمحان بظهور أشكال جديدة لليبرالية: فنيوليبرالية(Neolibéralisme) هايك، وليبرالية ميلتون فريدمان(Lultralibéralisme de Milton Friedman) كما وليبرالية روبرت نوزيكRobert Nozick ، أجمعت على ادانة المبالغات واضطرابات وفشل دولة الرفاه الإجتماعيWelfare State على المستوى الإجتماعي والإقتصادي، وذلك بالعودة إلى المذهب التحليلي الفردي الكلاسيكي (Lindividualisme classique). آتياً من مدرسة سياسية مختلفة، كتاب جون رولز “نظرية العدالة”théorie de la justice (عام 1971) شجب أيضا المفهوم النفعي والرعائي(utilitariste et welfariste) للديمقراطية التي حصلت على كل استحسان لدى لليبرالية الجديدة. على الصعيد السياسي، شكلت الليبرالية “الجديدة” تهديدا للحريات الأساسية، بما أن السلطات المعطاة للدولة بهدف الوصول إلى النهاية/الغاية المبتغاة (السعادة ودولة رفاه ورفاهية)، تتنكر لفكرة تعددية الغايات وحرية الافراد في اختيار غاياتهم الخاصة. على الصعيد الاقتصادي، سياسة إعادة توزيع الثروة بطريقة نفعيةutilitariste التي لا تأخذ بالحسبان إلا المستوى العام أو المعدل الوسطي للخير العام والرفاهية(Bien-être) ، دون تصحيح الخلل واللامساواة البنيوية للمجتمع. إلى هذه الليبرالية الرعائية(welfariste) ، سيقدم رولز قراءة جديدة لليبرالية الكلاسيكية، قراءة تحترم المثل الديمقراطية والهموم المتعلقة بالعدالة الاجتماعية.
فلسفة للحرية
عرفت الليبرالية الجديدة في القرن العشرين نشاطاً وحيوية فكرية بالغة الأهمية، ما سمح لها بالإجابة جزئيا عن بعض تحديات عصرها. كيف بالإمكان إذا، في القرن الواحد والعشرين، إعادة إحياء الروح لهذه لليبرالية، ضد انحرافات النيوليبرالية، كما كان يقول ماكس فيبير(Max Weber) ، في الشروط الاجتماعية والاقتصادية الجديدة والمعاصرة؟
فلنختم بكلمة أمل. بالنسبة للأفكار السياسية المنافسة، كالاشتراكية أو المحافظة، تتميز الليبرالية بقدرتها العالية على الحفاظ على بنية مفاهيم ثابتة (“قدرة تحمل بنيوية”sa tolerance structural/، مع استعارة هذا المصطلح التحليلي الرائع لمايكل فريدنMicheal Freeden ) من خلال تحولاته وتبدلاته. في الواقع، فإن البنية المفاهيمية لليبرالية بقيت هي ذاتها من دون أي تغيير. كما يقول الفيلسوف الأميركي رونالد دواركنRonald Dworkin : “تتألف الليبرالية من أخلاق سياسية تأسيسية لم تتغير عبر التاريخ والتي تستمر تأثيراها في السياسة”. نجد في الليبرالية “الجديدة” مفاهيم أساسية لسيادة الفرد، لحرية الناس العصريين ولدولة القانون. ولكن هذه البنية تغيرت لأن العلاقة بين المفاهيم الأساسية والمفاهيم المحاذية والمتاخمة للديمقراطية كالمساواة والدولة والخير العام، قد أثروا تأثيراً قوياً بهذه المفاهيم الجوهرية الأساسية. في النهاية، إن هذه القيم الرئيسية (الحرية الفردية، حرية التجارة، التسامح، رفض النظام والدوغماتية، والقدرة على النقد الذاتي،….) شكلت مصدر إلهام لأسلوب ولشكل ثقافي محدد وخاص، والتي أعطت لعائلة هذه المفاهيم مرونة وانفتاحاً ميزتهما عن غيرهما من الإيديولوجيات. في المنظار الطويل الأمد، فإن “للبيت الليبرالي” أبواباً ونوافذ مشرعة ومفتوحة بشكل أكبير على العالم مقارنة مع غيره من البيوت الفكرية.
ماذا ستقول فلسفة الحرية إذا كان هذا المشروع متناغماً ومنسجماً مع الدوغماتية ومع روح النظام(esprit de système) المنسوبة عامة للإيديولوجيات السياسية؟ بحكم التعريف لا تستطيع الليبرالية أن تستوحي وتنتج فلسفات دوغماتية وطائفية/أو حزبية بالمعنى الضيق للكلمة. لذلك، إن المغالاة في الليبرالية(ultralibéralisme) كميلتون فريدمان(Milton Friedman) مثلاً، هذا الشكل من الليبرالية التي تبنته حكومات تاتشر وريغن، يصعب وضعه في البيت الليبرالي لأنه يتحول بسرعة إلى تيار وفكر محافظين، من خلال حججه الشكلية من جهة، (التي في كثير من الأحيان تكون دوغماتية ومتعصبة) أو من خلال محتوى أفكاره من جهة أخرى. بالمقابل، إذا طبقنا “مفهوم قدرة التحمل” على الفلسفة ذاتها، باستعادة لصيغة جون رولز، تتمظهر الليبرالية المعاصرة في كوكبة من الأفكار والقيم التي، وإن كانت تتضمن جوهراً ثابتاً، هذه الأفكار والقيم عرضة لتنظيم جديد مختلف، كالذي أنجزه جون ستيوارت ميل أو ككل كتّاب الليبرالية “الجديدة” الذين سبق وذكرناهم.
يمكننا طبعا الاعتراض على المرونة والانتقائية الواسعة(éclectisme)، غير المقبولة سياسيا، أو التي تعطي علامات ضعف على المستوى الثقافي عامة. في الواقع، أنها نقطة قوة لإيديولوجية سياسية بقدرتها على التجدد، والتأقلم مع الظروف الجديدة والتمكن من إطلاق تعاون وتنسيق مع قوى اجتماعية متعارضة. إلا أنّ ما هو ممكن بالنسبة لتيار ثقافي، ليس بالضرورة ممكناً بالنسبة لحزب سياسي. لذلك فان إشعاع الليبرالية “الجديدة” كان يأتي من خلال حركات ثقافية أكثر منه من خلال برامج حزبية. تظل بذلك الليبرالية مصدر وحي لكثير من الناس الباحثين عن أجوبة لتحديات العالم الجديد الذي يعلن عن نفسه، بعيدا من القوالب الجامدة والدوغماتية.
(انتهى)
LEconomie politique, FRANCE, No44-2009
www.leconomiepolitique.fr
Rédacteur en Chef adjoint: M. Christian Chavagneux
Catherine Audard: Quest-ce que le libéralisme? Ethique, Politique, Société-Paris, Gallimard-2009
المستقبل