بشير البكرصفحات الرأي

الليبرالي العربي ..الانتهازي/ بشير البكر

   أصبحت من الموضات الجديدة أن يعلن المثقف العربي المقيم في الغرب أنه ليبرالي. والحقيقة أن هذه الصفة التي  ظهرت في الغرب وتعبر عن معان محدّدة نذكر منها: الليبرالي هو الشخص الذي يدافع عن الضحايا والحريات الفردية وحرية التفكير والحرية السياسية، وهو أيضا، بالمعنى الإقتصادي، من أنصار الحرية الإقتصادية، كما أن الليبرالية تتضمن معنى آخَر وهو التسامح، لا نعثر عليها لدى المثقف في طبعته العربية. وبالتالي فنحن أمام ظاهرة عربية جزئية واختزالية للمصطلح، تفرغه من معناه الأصلي.    فالليبرالي العربي، الذي يتخبط خبط عشواء، تجده يُدافِع عن حرية المِثليّين وحقهم في الزواج والتبني، وفي ذات الوقت يحارب، بشتى الصيغ الممكنة، حق الفتيات المسلمات في ارتداء الحجاب… كما أنك تجده يتقزز من أبناء جلدته ويعيب عليهم اهتمامهم بشراء اللحم الحلال ورغبتهم في ممارسة طقوسهم في جو من الكرامة والاحترام… بل قد يذهب هذا الليبرالي العربي إلى درجة انتقاد العلمانية الفرنسية باعتبارها تتسامح كثيرا مع الأديان، وهو هنا يقصد الدين الإسلامي، في وقت لا يستطيع فيه أن ينتقد الدين اليهودي. وقد رأينا هذه النماذج الليبرالية المشوهة تعلن عن نفسها، مع محنة الرسوم الكاريكاتورية عن النبي محمد، وما تتبع ذلك من تظاهرات ومشاعر ألَمٍ لدى المسلمين الذي مُسّو ا في كرامتهم ومقدساتهم وعقيدتهم. وهنا لاحَظْنا كثيرا من هؤلاء المثقفين يعبرون عن دعمهم لـ”حرية التعبير”، أي حق الرسامين الكاريكاتوريين في السخرية من الجميع، وأيضا حق الصحيفة الفرنسية المتحاملة على الإسلام “شارلي إيبدو” في إعادة عرض الرسوم لمن فاته ذلك، في “احتفالية” رهيبة، قُصِدَ منها التلذذُ برؤية “هستيريا” المسلمين.

وليس في وارد هذا المثقف الليبرالي العربي أبدا أن يناقشك في هذا التناقض الرهيب الذي لا تريد الديمقراطية الفرنسية، لحد الساعة، أن تجيب عنه: لماذا يحق لأي كان، باسم الحرية، أن يسخر من مقدسات المسلمين، من قرآنهم ورسولهم، ولا يمكن بتاتا التشكيك في المحرقة اليهودية وفي مبالغات اليهود والصهاينة لعدد ضحاياهم وفي استغلالهم المشين للمحرقة (كتاب “صناعة الهولوكوست” لم يؤلفه كاتب فرنسي!)؟

 الليبرالي الغربي في هذه المسائل واضح ولا عُقَد نفسية لديه. وقد رأيناهم يدافعون عن حق المرأة في لبس ما تراه ينسجم مع تعاليم دينها ونبيها، وفي حق المسلمين في تناول اللحم الحلال، من دون سخرية، وفي حقهم في دور عبادة حقيقة تتوفر على السلامة وفيها يحس المؤمن بالكرامة والسكينة. كما أن الليبرالي الغربي (الفرنسي) يطالب بوضع جميع المسائل والقضايا موضع المساءلة والقراءة وإعادة القراءة.    المثقف الليبرالي العربي يعيش تناقضات كبيرة، ويعبر عن انفصام رهيب. فأنت تجد نفس الشخص يدافع عن سفور المرأة وضرورة دخولها في معترك الحياة الفعلية، وهو أمر محمودٌ، بالطبع، ولكنك تلقاه، في نفس الوقت، يدافع عن أنظمة عربية ديكتاتورية واستبدادية، فقط لأنها تتحالف مع الغرب الذي يقيم فيه وتحارب الحِجاب أو تُراقِب المساجد.

ولأن فلسطين، والقدس منها في القلب، هي بَوصلةُ القضية العربية والاسلامية والضمير البشري، فهنا مقتل هذا الليبرالي العربي (البعض منهم كان يساريا في لحظة ما من حياته، والبعض الآخر لم يتورع عن السفر لاسرائيل ودافع عن الأمر!). وقبل أن تعترف الطبقة السياسية الفلسطينية المتحكمة بمسار التفاوض بإسرائيل، كان هذا المثقف العربي الليبرالي قد غسل يديه من الأمر. فَسَخِر من كل أدبيات النضال ومن تاريخ الصمود والمقاومة، وطالب بتطبيع وضع إسرائيل في المنطقة العربية، باعتبارها قدرا مقدرا. بل وضرورة للتقدم التكنولوجي. وكي تستقر الأمور لهذا المثقف الليبرالي، الذي يعرف جيدا تعقيدات الأمر في هذه المنطقة من العالَم، فقد توجَّب عليه أن يحارب كل العقبات التي تحول دون قبول هذا الكيان الغريب. توجب عليه أن يحارب الدين (الاسلام) والتاريخ ويحارب، في الوقت الراهن، كلّ من يرفض شرعية المغتصب الإسرائيلي. وهنا رأينا الليبرالي العربي يسخر من القومية العربية ثم انتقل للسخرية من المقاومات الاسلامية للمشروع الصهيوني. وكم كانت تصريحات الليبراليين العرب، إبان محرقة غزة 2007، تصب في مصلحة اسرائيل. فقد حملوا قادة حَماس والفصائل الفلسطينية الأخرى مسؤوليات جسيمة، حتى ظنّ المواطن العربي العادي، فعلا، أن حماس وأخواتها من الفصائل هي “المعتدية” على إسرائيل.

  من سوء حظ هذا الليبرالي العربي أن كتابا فرنسيين ليبراليين حقيقيين يرون خلاف ما يراه، ويقولون خلافه أيضا. ونكتفي بذكر اسم الراحل ستيفن هيسل، صاحب كتيب: “إغضبوا”، الذي أدان تصرفات وغطرسة إسرائيل، وسافر إلى غزة والتقى بقادتها وطالب العالم بالتفاوض مع حماس ولم يقل إنها إرهابية.

الليبرالي العربي، في قمه سقوطه الأخلاقي والسياسي، لا يرى في الصراع العربي الصهيوني، إلا ضحايا يهودا ومتطرفين وانتحاريين فلسطينيين. لم يعد يتحدث إطلاقا عن الاغتصاب والاقتلاع والمخيمات والشتات الفلسطيني وحق العودة. بل إنك تراه حريصا على تأبط كتابات تتحدث عن الشتات اليهودي وأدبيات “السلام الآن” الصهيونية. ولكن الليبرالي الفرنسي والغربي لا يزال يكلف نفسه عناء السفر إلى الأراضي الفلسطينية للاعتصام مع أهاليها في أراض مهددة بالمصادرة وللتنديد بسياسة الاستيطان والتهويد والأبارتهايد.

وقد تحدث الكاتب الفرنسي باسكال بونيفاس، بسخرية حادة، في أحد كتبه، عن هؤلاء الليبراليين العرب الذين يتكلمون بفصاحة وشجاعة رهيبتين عن الصراع العربي الإسرائيلي حين يكونون في بلد عربي، ولكنهم بمجرد ما يطأون فرنسا حتى تراهم وقد تحولوا إلى صُمّ وبُكم وعمي.

إذا أردنا منح وصف لليبرالي العربي فنحن لا نجد ما هو أبلغ من تعبير الطاهر بنجلون: عربي الخدمة. أي هذا الكائن الذي لا ضمير له، والذي هو مستعد أن يقدم خدمات للسيد الكولونيالي، بل ويتفانى في الخدمة.

حين تتناقش معهم تحسّ بأنه لا ماض لهم ولا تاريخ. مجرد كائنات قادرة على تغيير المواقف كما تغير الجوارب. ولعل بعضهم في هذه السنوات الأخيرة بدأ يجتهد في محاربة كل الأصوات الواعدة التي تنبثق من الشتات العربي في الغرب، فرأيناهم يحاربون المفكر طارق رمضان وغيره، لا لشيء إلا لأنه يفكر بحرية وبشكل مختلف ولأنه متشبع بثقافتين و”لا يخلع أصحابه”.

والحقيقة التي يمكن لنا أن نخرج منها ونحن نتتبع بعض الأمثلة، وهي غالبا ما تتشابه ويستنسخ بعضها بعضا (السخرية من الدين الاسلامي والتنافس على زيارة اسرائيل، والمطالبة بعودة الاستعمار إلى عالمنا العربي الاسلامي الخ..)، هي أن هؤلاء المدعين لم يفهموا شيئا في الليبرالية… بل إن كلمة “مرتزقة” أو “انتهازيين” ربما تؤدي المعنى المطلوب.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى