الليرة السورية وفوبيا الدولار/ سوسن جميل حسن
في سورية، وفي حمّى استعار الأسعار، تمشياً مع الحرائق المستعرة على أرضها، لا يمكن للمواطن أن يلحق الارتفاع الصاروخي لثمن السلع الحياتية، حتى لو كان حائزاً على ميداليات في سباق النهب والفساد، وصار الدولار نجم الأحاديث، وهو المارد المحبوس في زجاجة، كما مارد الحكايات. غالبية أفراد الشعب السوري لم يتداولوا بالدولار فيما مضى، ولم يكن لديهم فائض دخل يشترون بواسطته “الأخضر” في انتظار أن يثمر، فكيف اليوم وقد باتت الغالبية العظمى ممن بقي من الشعب السوري في البلاد، وعلى قيد الحياة، تعيش تحت خط الفقر؟
لكن، على الرغم من الوضع المأساوي هذا، وعلى الرغم من الأمية المستشرية بين أفراد المجتمع وانخفاض مستوى التفكير، إلاّ في الانشغال بالأزمات الحياتية وملاحقة المياه والكهرباء ورغيف الخبز، إلاّ أن كل الباعة عندما يستغرب المواطن ارتفاع السعر يكون ردّهم جاهزاً وممزوجاً بمرارة ما: الدولار ارتفع ثمنه. حتى باعة البسطات العامرة بمواد يستحيل معرفة مصدرها ومكوناتها وتاريخ صنعها يقيّمون بضاعتهم قياساً بالدولار. سألت واحدة من الفلاحات اللواتي ينزلن الأسواق الشعبية، يفترشن الأرصفة، ويعرضن البضاعة التي تجود بها الطبيعة، أو منتجات زراعية منزلية، سألتها عن الأعشاب التي تعرضها أمامها، والتي تجود بها الأرض بعد موسم الإمطار، من الهندباء والخبيزة وحشائش أخرى، قالت لي: غلي الدولار.
صارت هذه اللازمة مثل ترنيمة ندبٍ يرددها الشعب السوري. لا يعرف المواطن السوري المهدد بأمنه ورمقه المعادلات المالية، ولا يفهم في قوانين النقد، ولا تعنيه الخطط والاستراتيجيات والتكتيكات التي تقوم بها الحكومة. لا يعرف من العملات غير ليرته السورية التي تعامل معها على مدى التاريخ، على أساس أنها جزء من هويته الوطنية وكرامته. في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، كانت هناك الليرة الفضية التي جرى سحبها من الأسواق، واستبدالها بليرة أخرى أقل كلفة في التصنيع، أخذ المواطنون يخزنون منها، بعضهم كوثيقة على تاريخ معين، وتحت ضغط نوستالجيا مرتبطة بالماضي، وبعضهم كمعدن ثمين، وكانت الصبايا تأخذها إلى الصائغ ليلحم بها حلقة يمر منها سلسال فضي، تزدان الصدور به. لم تصبح الليرة السورية، بحد ذاتها، إشكالية وموضوعاً يختلف عليه السوريون، إلاّ في السنوات الأربع الأخيرة. سورية اليوم مقطّعة الأوصال مقسّمة، مجزّأة، وأحد عناصر واقعها المجزّأ هو الليرة التي تحمل حمولات سياسية متنوعة، ففي المناطق الشمالية، صدرت قرارات باستبدالها بالليرة التركية، وهذه مثل باقي العملات، تدخل في ميزان الصرف، قياساً بالدولار الذي هو ربما العملة الوحيدة عالمياً التي يمكن اعتبارها سلعة بحد ذاتها، تنتجها الولايات المتحدة، وتحدد سعرها عالمياً وتبيعها.
“عندما يصل المواطن إلى مستوى الرعب من فقدانه رغيف الخبز بسبب الدولار، سوف تنسيه الحياة وبقاؤه وأولاده على قيدها أن الليرة مرتبطة بالكرامة الوطنية”
وفي المناطق التي هي تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، هناك الدينار الذهبي الذي سوف يفرض حضوره القوي مع الوقت في تداول أسواقها. وفي المناطق التي تديرها حكومة النظام، وما زالت هي الوحيدة المعترف بها عالمياً، فإن المشكلة الكبرى هناك، حيث يلعب الدولار مع الليرة مثل توم وجيري، لكنها ألعاب قاتلة، يدفع الشعب ثمنها من قوته وحقوقه الحياتية. لا يفهم المواطن لماذا كان البنك المركزي يطرح كل حين كمية كبيرة من الدولارات، لحماية الليرة ولجم الارتفاع الجنوني بسعر الصرف، أو الانحدار الخطير بقيمة الليرة، ثم يتراجع فجأة الآن بعدما قارب سعر الدولار الأربعمئة ليرة، تاركاً السوق الحرة تحدد القيمة الفعلية للصرف في الأيام المقبلة، حتى إن هذا المواطن لا يعرف شيئاً عن الاحتياطي النقدي في بلاده، وماذا بقي في خزينته منه، مثلما هو يجهل أبسط قواعد الإدارة الحكومية وسياساتها. لا يعرف المواطن ماذا يعني تعويم العملة، حتى لو كان موجّهاً أو مُداراً، يعني تحت رقابة الحكومة وإمساكها بدفّة التعويم. لا يدرك المواطن ما معنى أن يكون في السياسة النقدية سلّة عملات تديرها الحكومة، ولا يفهم ما جدوى الانتقادات التي توجّه إلى الدول الحليفة للنظام التي في وسعها، لو أرادت، أن تدعم الليرة بتوريدها سلعاً إلى الشعب السوري، بعملتها وليس بالدولار، مثلما تدعم العمليات الحربية.
المواطن السوري البسيط المغيّب عن القرار، أو عن فهم الأداء الحكومي، يصدّق “فيسبوك” أكثر من أي نشرة رسمية أخرى، “فيسبوك” والمنابر الإعلامية المشابهة تقدّم له نشرات مبسّطة ملخّصة عن الواقع، مثلما يمكن أن يلعب في الواقع ويقلب السوق في لحظة.
الليرة السورية المنزلقة في سقوط حرّ، بقيت أوراقها النقدية في التداول، بل غرقت الأسواق بقطع مطبوعة حديثاً، وفق معايير جودة أعلى من الموجودة دليلاً صارخاً على الفساد في أبشع صوره. الأوراق النقدية المطبوعة في العقدين الأخيرين بآلية الغش التي بواسطتها يُسرق الجزء الأكبر من كلفة الصكّ النقدي، مهترئة لا تحتمل التداول وملامسة الأيدي، بينما ورقة الألف التي طبعت حديثاً طرحت للتداول، في وقت وصل فيه انقسام الشارع إلى ذروته، فأُمطرت صفحات التواصل الاجتماعي بالآراء والمواقف العدائية، قسم يهلل، لأنها خالية من صورة الرئيس، وقسم غاضب لأنها محرومة منها. والتهى الطرفان بالصورة، بينما الليرة تستغيث، مثلما تتعرقل كل محاولات التفاهم حول نقطة خلافية في الواقع، من جنيف إلى فيينا بعداد الأرقام التابع لهما، بينما البلد أو ما بقي منه يتهاوى.
ما زال هذا الشعب المغرّر به يجهل أبسط قواعد الاقتصاد، ولا يعرف معنى الناتج القومي، ولا احتياطي المركزي، ولا الإنتاج، ولا الصادرات أو الواردات، ولا التعويم، ولا تأثير الاضطرابات وظروف عدم الاستقرار على قيمة العملة. يعرف فقط أن جرزة الهندباء والسلق والخبيزة والبقدونس كلها صارت تحت رحمة الدولار، وأن الدولار هو المارد الذي يخرج، كل حين، ليبتلع الأخضر واليابس، ثم يعود إلى زجاجته يضحك، وهو يتأمل المشهد. لكنه بدأ يتساءل أيضاًّ: إلى متى؟ ولماذا ندفع الفواتير الباهظة؟ لماذا ندفع للمجهود الحربي ولإعادة الإعمار وطوابع الشهيد؟ لماذا حلفاؤنا الذين جاءوا ليدحروا “الإرهاب”، ويبرمون صفقات السلاح معهم بالدولار، لا يدعمون ليرتنا ويحموننا من إرهاب الدولار، على الرغم من كل خطابات الأخوة، وعلى الرغم من اكتشاف هذا الشعب أشقاء له كان غافلاً عنهم، فإيران شقيقة، وروسيا شقيقة، وأظن الصين أيضاً ستنادى بالشقيقة في البيانات الرسمية، وبحسب مزاج السياسة والسياسيين.
عندما يصل المواطن إلى مستوى الرعب من فقدانه رغيف الخبز بسبب الدولار، سوف تنسيه الحياة وبقاؤه وأولاده على قيدها أن الليرة مرتبطة بالكرامة الوطنية، وسوف ينسى كثيرين من رموز هذه الكرامة، لأن البطون الخاوية لها ترتيبات أخرى، وأولويات غير أولويات الارتقاء الإنساني.
العربي الجديد