صفحات الثقافة

الليل يستخرج من جسده ساعة تلو أخرى/ أوكتافيو باث

 

 

ترجمة: زهرة مروة

أوكتافيو باث (1914-1998) شاعر وكاتب وديبلوماسي مكسيكي. ولد في المكسكيك. نشر أول كتاباته الشعرية في السابع عشر من عمره. عمل في الصحافة وكان سفيرا لبلده في دول عديدة. حصل على جوائز أدبية عديدة، أهمها نوبل للآداب عام 1990 على كتابه «متاهة العزلة» الذي صدر عام 1961. وبذلك يكون أول مكسيكي يحصل على هذه الجائزة. يعد اوكتافيو باث من أهم كتاب العالم تأثيرا في القرن العشرين. وهو واحد من أهم الشعراء الاسبان. تناول باث في كتاباته مواضيع متنوعة تتمحور حول الشعر والفن والدين والتاريخ والسياسة والنقد الأدبي. ونشر خمس مجموعات شعرية صدر أولاها عام 1949 وآخرها سنة 1987. من بينها: «حجر الشمس»، «حرية تحت كلمة»، و «فصل من العنف».

 

وادي مكسيكو

النهار ينشر جسده الشفاف. النور يصفعني بمطارقه الكبيرة الخفية. معلق بالحجر الشمسي، لست الا نقطة توقف بين ذبذبتين: النقطة الحية والثاقبة، نقطة التقاطع الهادئة والثابتة بين نظرتين تتجاهلان بعضهما وتلتقيان في داخلي. ترى هل تتفقان؟ أنا المدى الصافي، أنا ساحة المعركة. أرى عبر جسدي جسدي الآخر. يتألق الحجر. تنزع الشمس عيوني. في مداراتي الفارغة كوكبان يلمعان ريشهما الأحمر. إشراق، عصف أجنحة، ومنقارٌ مفترسٌ. عيوني تغني الآن. إنحنِ لغنائها. إرمِ بنفسكَ في الحطب المشتعل.

الصِّبا

قفزة الموجة،

أكثر بياضا، كل ساعة،

أكثر اخضرارا، كل يوم

أكثر صِباً

في الموت

كتابة

أرسم هذه الأحرف كما يرسم النهار صوره. ينفخ عليها ولا يعود.

 

رحلة ليلية

الليل يستخرج من جسده ساعة، تلو أخرى. ساعات كلها مختلفة واحتفائية، عناقيدَ، تيناً، قطراتٍ بطيئةً للظل. الهواء يعزف البيانو بين حجارة الحديقة المخربة. المنارة تمدّ عنقها، تدور، تنطفئ، تصيح. الكريستال يغطي الفكرة، مخمل عميق، دعوات: الليل، ورقة كبيرة وبراقة، وقعت منال شجرة الخفية التي تنمو في قلب العالم.

وعند المنعطف، التجليات: الفتاة التي بالكاد أن تُلمس حتى تتحول الى كومة أوراق جافة، المجهول الذي بإشارة ينزع قناعه، ويحدق اليك بلا وجه، الراقصة التي تدور حول أصابع صرخة، الـ «أين تعيش؟» ألـ «من أنت؟» الـ «أين أنا؟»، الصبية التي تتقدم كضجة عصافير، السور المدمر لهذه الفكرة اللا منتهية والتي تنفتح باتجاه السماء، قصيدةً مشطورةً الى نصفين… لا ليست هي تلك التي تنتظرها. تلك التي تنتظرك في طيات نعاسها.

وهنا عند المنعطف، ينتهي الأخضر وتبدأ الحجارة. لا شيء. لا شيء تقدمه للصحراء: لا قطرة ماء لا قطرة دم. بعينين معصوبتين تتقدم أنت في الممرات، وفي مفترقات الطرق، وفي الأزقة، هناك حيث تتآمر ثلاث نجمات. النهر يتكلم بصوت خفيض. على يمنيك وعلى يسارك، وراءك وأمامك، ضحكات ووشوشات خسيسة. يترصدك المونولوغ في كل خطوة مع علامات التعجب، وعلامات الاستفهام، وبمشاعره النبيلة، استيضاحاته عند منتصف القبلة، طاحونة بكائياته، ومخزن مراياه المهشمة. إمضِ: ليس هناك ما تقوله لنفسك بعد.

 

تلة النجمة

هنا كان القدماء يستقبلون النار

هنا كانت النار تخلق العالم

والحجارة تنفتح ظهرا كالفاكهة

المياه تفتح جفونها

الضوء يسيل فوق بشرة النهار،

قطرة كبيرة ينعكس فيها الوقت ويهدأ.

 

خروج

بعد الكثير من السهر، وقضم العديد من الحجج المنطقية، وبعد أن سكنتُ الكثير من الخراب وأسباب الخراب، أخرج الى الهواء الطلق. أبحث عن أحد. ومن هذه الترمبولين، أرمي بنفسي، رأسي الى السفل، عيناي مفتوحتان. الى أين؟ الى البئر، الى المرآة، الى التفاهة. (جمال، إشراق قاسٍ يعترضني.) كلا، انه الوقوع في عيني الآخر. مياه العيون، نهر أصفر، نهر أخضر، وقوع بلا نهاية في عينين شفافتين، في نهر عينين مفتوحتين بين خطوط الرموش كخميلتي رماح وجها لوجه، في انتظار شارة الهجوم. أضيع في لسان النهر وأعود الى الظلمات. حبيبتي أغلقي، أغلقي هاتين العينين المزدحمتين باللامعنى: موظفو دولة يقررون وقف جريان الدم، وجراحون يقتلعون أسنان الظلمة، جباة، راهبات، كهان، رؤساء، رجال شرطة.. أغمضي حبيبتي عينيك كما تفعل الغابة التي تنغلق على نفسها وتمحو الدروب التي تؤدي الى قلبها المغناطيسي، أغلقي الممر بوجه الذكريات التي تقرع أبواب روحك، وتستبد بجبينك.

حبيبتي، تعالي نقطف البرق في الحدائق الليلية. خذي هذه الباقة من الشرر الأزرق، تعالي ننتزع بعض الساعات المتوهجة، من كتلة الوقت المتحجّرة هذه، الارث الوحيد الذي تركه لنا أهلونا. عِقد من الشموس أنتِ على عنق عصفور المساء. في سماء داخل العين، ننشر أجنحتنا، نسراً ثنائيّ الرأس، كوكباً بذيل ماسي، وتضرعات. إشتعل، شمعداناً بثماني أذرع، شجرةً مشرقة تغني، جذوراً متعانقة، أغصاناً متناسجة، قمة يصرخ من فوقها عصافير من مرجان ومن جمر. كل شيء ممتلئ بنفسه بحيث يصير شيئا آخر.

أزنُ كلماتي بميزان هذه اللحظة. كلمة واحدة زائدة، في هذه القمم، تكفي لكي نمّحي من هذه الجهة من الوقت.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى