المأزق السوري والاحتمالات المطروحة
جلال/ عقاب يحيى
يتساءل كثيرون ممن كانوا مخدوعين بخطاب، وسمعة النظام السوري، ورئيسه عن الذي يجري في سورية من فظائع وقتل واعتقال، ورصاص ودبابات تجوب المدن، وآلاف المعتقلين، والشهداء والجرحى، وتأليف ساذج، باهت لتشويه حقيقة ثورة الشباب ـ الشعب السوري.. وبين الانبهات والدهشة تدبّ الحيرة في مسار ومستقبل النظام والبلد، بينما تكثر الاحتمالات وتتداخل راسمة صورة قاتمة، مفتوحة على مخاطر مختلفة ..
الكثير خدعتهم شعارات الممانعة، ودعم المقاومة، والخطاب المتميّز نسبياً عن خطاب النظام العربي في زمن الانهيار والتسول والتوسل فناموا على أنغامه، وأغمضوا العين طويلاً على بنيته وممارساته في الداخل السوري ومع الشعب، باعتباره أكثر نظم الأحادية، الشمولية استبداداً وقمعاً ومصادرة للحريات، واغتيالاً للرأي الآخر، واطمأن النظام، ومعه عديد الأوساط القومية والقومجية واليسارية وغيرها على (تميّزه) عن أمثاله من نظم الاستبداد العربي، وبالتالي : وجوده في مأمن من الثورات العربية المتنقلة التي ترسم أفقاً جديداً يهدف أساساً إلى اشتلاع الاستبداد وإقامة النظام الديمقراطي.. حتى كان الانفجار المفاجئ للشباب السوري، بدءاً من أيقونة الثورة : درعا، وامتداداً متصاعداً في الكم والعمق .. إلى عموم المناطق السورية كواحدة من أهم الثورات العربية، وأكثرها نتائجية وتعقيداً، وربما تضحيات أيضاً .
لقد أقام الأسد الأب نظاماً استبدادياً مغلقاً قل نظيره في أخواته العربيات، بالارتكاز إلى القمع والأجهزة الأمنية قاعدة ويداً ضاربة بفروع كثيرة العدد والعدّة والمخبرين والملحقين، وإلى التخويف المثقل بممارسات القتل والاغتيال والاعتقال والترهيب أساساً للاستقرار المفروض، وإلى المؤسسة العسكرية عبر احتلال مفاصلها الهامة من قبل الطيّعين، المؤيدين من العائلة والعشيرة والمقربين، وتفريغ البعث وتجويفه، وتحويله، كما بقية الأحزاب المنضوية في جبهته، وبقية المؤسسات إلى بوق للتهريج والترداد، وإلى الانتهاز والفساد والإفساد، وإعدام كل الهوامش ..
وعندما فرضّ الأب التوريث بقوة المتنفذين في الأجهزة، وتفاهة الطواقم الانتهازية الاستعراضية، وما جرّته هذه العملية الغريبة من تحويل الجمهورية إلى ما يشبه الملكية، ومن تقزيم لسورية الحضارة والشموخ والدور، ومسخ ومسخرة جميع المؤسسات، وفي مقدمها الحزب الواجهة، والادعاءات المثقوبة.. وبالنظر إلى أوضاع المجتمع السوري، وما حلّ بالقوى الحيّة من تصفية وحصار وتراجع، وبقوى المعارضة من تشتت ونزيف وضعف وأزمات….
انبثقت المراهنة القسرية على التوجهات الإصلاحية” للرئيس الشاب”، خصوصاً وأن بعض الكلمات التي وردت في خطاب القسم، وذكر وقوع أخطاء أسالت لعاب الأمل لدى البعض، فسجلوا أحلامهم في لائحة انتظار مفتوحة، تتجدد صفحاتها المهترئة دون أن يقوم النظام بأية خطوة جدّية في الإصلاح الحقيقي المنشود طوال عقد ونيّف من حكمه، خاصة على الجبهة الاجتماعية، ونخصّ بها : الحريات العامة، وبعض الانفتاح والتغيير، وجبهة مقاومة الفساد والإفساد والرشوة ونهب المال العام، وكفّ يد الأجهزة الأمنية الأخطبوطية، السرطانية.. فمرّت الأعوام ولا دليل على وجود نيّة بالإصلاح.. حتى كان الانفجار الشعبي.. الكاشف الأشمل لحقيقة النظام، ونهجه، وبنيته، وطريقة تفكيره وتعاطيه مع الشعب، ومع دعوات الحرية
. ويسأل كثير باندهاش أيضاً : ألم يكن بمقدور النظام ورأسه أن يُقدم على بعض الخطوات الإصلاحية الفعلية قبيل انفجار الشارع السوري ونذر الثورات العربية تجوب العقول والميادين؟؟.. ثم لماذا لم يبادر منذ اندلاع الشرارة الأولى إلى جملة من الخطوات كان يمكن لها أن تمتصّ، وتستوعب، وربما تلبّي مطالب الشعب فيجنّب الويلات عليه وعلى البلاد ؟؟…ولماذا الإصرار منذ البداية على الكل الأمني، وهذا الاستخدام الفظيع للعنف والقوة؟.. وماذا بعد ؟؟؟ ..
ولأننا كتبنا كثيراً في بنية النظام، وحللنا مراراً طبيعته، وبنى ارتكازه، ونهجه الثابت.. وعدم المفاجأة فيما أقدم عليه، ولا في القادم أيضاً، أكتفي هنا بتعداد الأسباب التي حالت، وتمنع النظام ورأسه من تلافي هذا الوضع الذي وصلت إليه بلادنا :
1 ـ نظم الاستبداد على العموم، والنظام السوري على الخصوص لا يقيم وزناً، أو اعبتاراً أبداً لشعب أو نخب، أو مفكرين ومثقفين، أو أحزاباً وحركات معارضة، انطلاقاً من عقيدة الإخضاع، والفرض عبر القوة والتهديد والترغيب، ومن احتقار الآخر، وامتهان كرامته، واستسهال القضاء على حياته، وهو لا يرى في هؤلاء أكثر من نظرته للحشرات، والعبيد،والأرقام المصفوفة في الأضابير والتصنيفات.. فكيف إذا ما تجرّأ هؤلاء وقالوا لا للمستبدّ؟؟، وكيف إذا ما اقتربوا من الخطوط الحمر(وخطوطهم الحمر كثيرة، وأولها الصور والأصنام والرهبة والهيبة) ؟؟..
2 ـ تركيبة العقل الأقلوي الذي يصنع البعبع كوابيساً تقضّ مضاجع منطق المسؤولية عن شعب وحكم، والأقلوية هنا لا تخصّ الجانب الفئوي(أو الطائفي بصريح العبارة(*) وحسب، بل الأقلوية الشعبية والطبقية وحتى المؤهلات والقدرات، والفكر والسياسة، والآخر..
هذا العقل الأقلوي كثيراً ما صنع من الآخر(أيّ آخر، محدداً وغير محدد) عدواً، وبديلاً حاقداً يحمل سيف الثأر لقطع الرؤوس، وبما تترجمه عمليات الاحتقان، ومحاولات التجييش المنافية تماماً للخطاب المرفوع، ولصورة الواجهة التي يجري إبرازها بعناية عن(الأكثري) الذي يحتل مقاعد المسؤولية، والصورة الإعلامية .
3 ـ ذات العقل يجد مرتعه الخصب في تكبير العداوة للخارجي، والمؤامرة الأبدية الدائمة التي تُحاك ضده من الآخر الذي لا يعلن اصطفافه الكامل في خندقه.. فكيف و”المؤامرة الإمبريالية ـ الصهيونية” تسيل لعاب التكتيك، والطمس، والحرف، والتزييف، والستارة الأنسب ؟؟
.. هنا تحضر التفاصيل والروايات والاتهامات المعلبة الجاهزة، ويصبح قتل الآخر مشروعاً وجزءاً من ” المعركة ضد ” الخونة” و”المتآمرين” : الشعب تحت هذه اليافطة الوطنية جداً.. ذلك بغض النظر عن حجم مفاوضاته وعلاقاته ومقايضاته واتفاقاته مع أطراف تلك المؤامرة، وقابلياته على المساومات المفتوحة معها.. شرط أن يبقى حاكماً، وشرط ألا تقترب من خطوطه الحمر التي يحددها ..
4 ـ وارتباطاً بهذا الذهن المأزوم، العنجهي، المتعالي.. فإن من يقرأ خطاب الأسد الابن في مجلس التهريج يقبض بالجرم المشهود على نهج خطير يمكن أن يقود البلاد إلى الدمار والحرب الأهلية ما لم (يجتث) حركة الشارع المعارضة، ويفرض منطقه، وشروطه، و”إصلاحاته” كما يريد..
إن زبدة ذلك الخطاب تتلخص بكلمتين : الفتنة، والاستعداد لخوض معركة.. وهو تلخيص خطير يحمل كل الدلالات التي تشهدها بلادنا، والمرشحة لمزيد من التفاعلات، إن كان ما يتعلق بعدم ممانعة النظام في جرّ حركة الثورة الشعبية إلى أتون الحرب الأهلية، وإلى التسلح واستخدام العنف كي يبرر قمعه وقتله واحتلال الدبابات للمدن.. أو في تصوير ما يجري معركة عليه أن يخوضها حتى النهاية(كما أكدها ابن الخال رامي مخلوف أيضاً).. وهو ما تترجمه أحداث البلاد يومياً .. وتغليفه بأكاذيب مفبركة عن هوية حركة الشعب، وقصص المندسين والغرباء والمسلحين فالسلفيين.. والقاعدة غداً ..
5 ـ وخلافاً لكثير الآراء المطروحة التي تروّجها أوساط عديدة، وبعضهم يريد تدعيمها بقصص وحكايا و”تسريبات” عن وجود خلافات في الأسرة ـ الطغمة الحاكمة، فمحاولة تمييز الرأس عن أخيه، وعن” الصقور”، والمراهنة على هذا التميّز في دعوات الحوار الكثيرة المنشورة، وأكثر منها المبادرات والبيانات والمحاولات والدعوات ..
فإن رأس النظام جزء أساس من التركيبة إيّاها، بل هو المسؤول الأول، والمباشر عن كل ما يجري من إراقة دماء وعنف، وقد قالها “بعظمة لسانه” ووسط قهقاته في الخطاب إيّاه الذي نفى وجود من يمنع “الإصلاح”، وأكثر.. والحديث عن خطه الإصلاحي، ورغباته بذلك (لولا..) هو نوع من التعمية، والغمغمة التي ربما تفرضها الأماني، كما تفرضها حالة الانسداد الشديدة، والحرص على مستقبل البلد.. أكثر مما تسندها أية وقائع أو دلالات أسقطتها أرضاً مواقفه، وفعله .
6 ـ إن حركة الشارع الثائر سبقت جميع قوى المعارضة والنخب في طروحاتها ووقعها وسقفها، وهي تتجه صريحة نحو مركزة شعار إسقاط النظام.. بما يعني أن على جميع القوى الحيّة، والنخب، والنشطاء مواكبة هذه الحركة وترشيدها ودعمها، وليس محاولات خنقها، أو الالتفاف على حيوتها وآفاقها .
إن دعوات الحوار متعددة الخلفيات، والمطالب والشروط.. لا تستقيم مع ممارسات النظام ونهجه وردود فعله، وفهمه للحوار المعلب، ناهيك عن مدى توافقها مع حركة الشباب الثائر، ومع حجم الدماء المراقة، والتضحيات البطولية التي تقدّم يومياً، خصوصاً وأنها تواجه الباب المسدود بداية، وتطمس حقيقة مسؤولية رأس النظام عن كل ما صار، مع الخشية المشروعة أن تصبح إبرة مسكّن لجذوة الثورة، تقع في تكتيك النظم وتسريباته المقصودة .
7 ـ وأمام حالة الانسداد التي يغلقها النظام بإحكام قبضته ودباباته وأجهزته وشبيحته، واستحالة استجابته لإصلاحات فعلية تتداخل الاحتمالات مفصحة عن تداولها في العقول، والأسئلة المُثارة .. وهي وإن كانت معروفة كأفق، وتتناوب بين المخرج الأسلم، وبين الحرب الأهلية، أو احتمالات التدخل الخارجي المباشر..
فالأكيد الأكيد أن شعبنا يعي جيداً مخاطر الحرب الأهلية المدمرة التي يمكن أن تحمل الويل والثبور والخراب، ولا يكون فيها أي منتصر سوى أعداء البلد، والنزيف، والتقتيل، والخندقة، وما هو أكثر..ولذلك يرفض الانجرار إليها، مثلما يرفض الانتقال إلى استخدام العنف والسلاح(المناخ المناسب لكي يسحقها النظام) ..
أما التدخل الخارجي المدان من الوطنية السورية بكل أطيافها ومشاربها ونخبها(بعض المرتزقة الفرديين لا يشكلون حالة جديرة بالذكر) فعدا عن كونها مرفوضة تماماً، ولا تصل عند الأغلبية سقف رفع الغطاء عن هذا النظام الذي ظل، وما يزال محمياً من أطراف تلك المؤامرة على مرّ العقود، فإنها وفق عديد الأسباب ليست مطروحة عملياً في الوقت الراهن(تحتاج إلى بحث خاص).
يبقى الحل الوحيد، الحل الممكن، السريع الذي يوفّر على شعبنا المعاناة والتضحيات والمخاطر، ويفتح الأبواب لمرحلة جديدة تماماً لقيام النظام الوطني الديمقراطي، التعددي، المدني.. من خلال تدخل وحسم المؤسسة العسكرية لهذا الوضع الشاذ، ووضع حدّ للطغمة القليلة المتحكمة بجيشنا وشعبنا ومقدرات وطننا.. تماماً كما جرى في الحالتين التونسية والمصرية .
إن جيشنا سليل الوطنية، جيش الوطن والشعب، وبرغم محاولات زجّ بعض قطعاته في مواجهة الشعب، وبرغم تسلّط بعض الطغم على قيادات عديد فرقه وألويته.. إلا أنه يبقى الأمل الذي تتجه إليه أنظار الملايين، ومحط الرجاء للخلاص الوطني، وسدّ أبواب الانزلاق إلى الهاوية.. وهو قادر على ذلك في المكان والزمان المناسبين، وأقله حماية المتظاهرين، أو الوقوف على الحياد برفض التلوّث بدماء الشعب، والتعرّض لحكم التاريخ .
8 ـ ومع كثرة المبادرات والبيانات، ومشاريع اللقاء هنا وهناك.. فإن وحدة عمل القوى والفعاليات السورية في الداخل والخارج ضمن صيغة عريضة جامعة تنبثق عنها هيئات مؤهلة للتعبير عن حراك شعبنا، وقيادة هذه المرحلة الدقيقة وصولاً إلى مرحلة تفكيك نظام الاستبداد والتأسيس للبديل المأمول..إنما تشكل هدفاً مركزياً يجب العمل على تحقيقه فوراً من جميع المعنيين في الداخل والخارج، شرط أن يكون استجابة للداخل، متناغماً ومنسقاً معه، وجزءاً منه وليس وصياً، أو بديلاً، أو موازياً له .
كاتب وباحث مقيم في الجزائر
القدس العربي