المئذنة وضياع التاريخ السوري
عبير حيدر *
لم يتوانَ النظام السوري عن قصف أماكن العبادة، وكانت المساجد الأكثر استهدافاً كونها شكلت أماكن لتجمع الثوار بهدف الانطلاق في التظاهرات. هكذا حوصر الجامع العمري واقتحم في بداية الثورة في درعا، فسقط عدد من الشهداء حينها. واستمرت الأماكن الدينية، جوامع وكنائس، عرضة للقصف والتدمير، خاصة في حمص من قبل قذائف وصواريخ النظام. ولاقت كل من كنيستَي أم الزنار ومار جرجس حتفهما على يد القصف المستمر لحمص، وأيضاً تضرر جامع خالد بن الوليد الأثري وحتى مقام سكينة (وهو مزار شيعي) في داريا لم يسلم من قذائفهم.
فَتَحَ قصفُ مئذنة الجامع العمري جرحاً عميقاً في نفوس الناس وذلك للقيمة التاريخية للمئذنة التي أضيفت للمسجد العمري إبان العصر الأموي، حيث لم يكن هناك مآذن في زمن الرسول والخلفاء الراشدين، وكان المؤذن يصعد لسطح المسجد ويدعو الناس للصلاة. المئذنة اُستحدثت في العصر الأموي واستوحيت فكرتها من الأبراج الأمامية الشرقية التي كانت لمعبد جوبيتر الدمشقي السابق على الجامع الأموي، وأقيمت المئذنة الشرقية للجامع على قواعد البرج نفسه، وتم بعد ذلك تعميم المآذن على كل المساجد والتفنن في زخرفتها وبنائها. إضافة إلى القيمة التاريخية للجامع العمري، الذي بناه عمر بن الخطاب أثناء زيارته لحوران سنة 635 ميلادية، فإن قيمة أخرى أضيفت إليه في تاريخه الحديث، لأنه شكل ملجأً لثوار درعا، مهد الثورة، حين كان المسيحيون والمسلمون غير المتدينين يقصدون الجوامع يوم الجمعة للخروج منها في التظاهرات، كونها شكلت مكاناً عصياً على رجال الأمن، لعدم قدرتهم على منع الناس من قصد الجوامع لصلاة الجمعة.
مشهد الحزن على دمار المئذنة يمكن تفهمه، طالما كان المقصود فضح همجية النظام ومحاولاته الحثيثة لتأجيج الشحن الطائفي. ولكن أن يتحول الغضب العارم والحزن الدائم ليصبح ضد طائفة بعينها، واتهام الشيعة والعلويين، واعتبارهم مسؤولين عما يجري من مجازر وقتل وتدمير في سوريا، وكأن الصراع الدائر في سوريا بين السنة والشيعة، في تجاهل للتنوع السوري في الانتفاضة منذ بداياتها… فهذا من الصعب قبوله، وهو تحريف للأهداف الأساسية التي اندلعت الانتفاضة من أجلها وسقط الشهداء على طريقها.
ولكن يبقى السؤال: أين كانت كل هذه الأصوات أمام النهب الممنهج لتاريخ سوريا الذي لا يقدر بثمن، والكثير من عمليات النهب تتم في المناطق المحررة تحت مرأى الجماعات المسلحة التي تسيطر على الشمال السوري الذي يحتوي ثلثي الآثار السورية، وتهرب منه عبر تركيا إلى العالم. لماذا لم نسمع مثل هذا النحيب على التماثيل التي تعود في القدم إلى ما قبل العصر الإسلامي في سوريا، والمعروف أن الأكثر قدماً في التاريخ هو الأكثر قيمة لندرته ورمزيته، مع العلم أن ما سُرق ونهب من الآثار السورية منذ بداية الثورة وحتى الآن يقدر قيمتها بعض أخصائيي الآثار بملياري دولار أمريكي. لم نسمع الاستنكار لضياع تمثال منحوت باليد يعود لفترة مملكة الأنباط ما قبل 2000 عام، وتمثال آخر يعود لفترة الحكم الآرامي ما قبل ميلاد السيد المسيح. أين الأصوات النائحة على ضياع 8 آلاف قطعة أثرية ما بين لوحات فسيفسائية وتماثيل وأعمدة وتيجان، وحرق النظام للأسواق القديمة والخانات وتدمير جزء من سور قلعة حلب وقلعة الحصن والقرى الأثرية القديمة (“المدن المنسية”)، وسرقة مئات وربما آلاف القطع الثمينة والنادرة. لم نشهد اهتماماً واضحاً بهذه الآثار، اللهم بعض الصفحات الخجولة والمعدودة التي تنشر عما يصيب الأماكن الأثرية من تهديم وأضرار وحرق، وبعض الجهود الفردية.
هل كل هذا الضجيج الذي يثيره قصف النظام للجوامع والمآذن ناتج من هيمنة ثقافة وفكر الجماعات الإسلامية/ وهو يحصل في سياق التحريض الطائفي والمذهبي، وفي سياق تكريس وعي جديد توقف عن قراءة التاريخ السوري عند الفتح الإسلامي لبلاد الشام قبل 1400 عام. الحضارة السورية موغلة في الزمن وتعود إلى ستة آلاف عام قبل الميلاد. لقد حاول النظام شطب الوعي الوطني للسوريين ما قبل استلام حزب البعث للسلطة، وها محاولات الإسلاميين لشطب التاريخ القديم لسوريا ما قبل الإسلام!!
* كاتبة من سورية
السفير