الماغوط زعيماً!
عمر حاذق
لماذا يلحّ عليّ الماغوط هذه الأيام التي تشتعل فيها سورية ببطولة فذة؟ لماذا يستدعيه وجداني الآن كأنما الأوان أوانه؟ أضحك حين أتخيل ذلك الرجل السمين اللاذع يقود مظاهرات سورية، أقول إنه لو فعل ذلك ربما تكون فرصته الكبرى ليكيل للسلطة كل الشتائم التي لم يقدر على كيلها في شعره.
أضحك أيضاً لأن الماغوط لا تليق به صورة البطل؛ هو الذي سخر من البطولة كما لم يسخر منها أحد، وحلم وحيداً في غرفته بالبطولة وهتاف الجماهير باكياً كما لم تبكِ امرأة من قبل، هو المهمش الذي ظل يبيع البطالة والتثاؤب أمام الدكاكين. منذ سنوات دمعتُ حين كنتُ على خلاف فكري كبير مع أسرتي، وقرأتُه صدفةً: ‘كان أبي لا يحبني كثيراً، يضربني على قفاي كالجارية ويشتمني في السوق’ منذ هذه الدموع أصبح شعوري بالماغوط معقداً.
أحس كثيراً أن الماغوط من الشعراء الكبار الذين لم يُقدروا حق قدرهم في مصر؛ لم يُكرم أو يُقرأ فيها كما ينبغي لهم. لذلك، نويتُ في نهاية العام الماضي تنظيم احتفالية شعرية بذكراه الخامسة في نيسان/إبريل 2011 ضمن ما أنظمه من أنشطة شعرية بمكتبة الإسكندرية، لكن رياح الثورة طارت بي بعيداً، وأدخلتني في معركة أخرى لتحرير المكتبة من نظامها السابق (الفاسد). مع ذلك تذكرت الماغوط بفرح في ذكراه الخامسة التي لم يتذكرها أحد تقريباً، مع ذلك شعرت أن سورية كلها تحتفل به: تؤمن بغضبه المقدس ضد السلطة، وتشيد ما حلم به في شعره.
هل تبدو هذه العلاقة غريبة (بين الثورة السورية وذكرى الماغوط)؟ لا أظن. فحين كان يقال إن ثورة مصر هي ثورة الشباب، كنتُ أقول إننا كشباب ثائرين لم نأتِ من فراغ، بل تربّى وعينا الثوري على أقلام وتحركات مجموعة كبيرة من المثقفين والشعراء والكُتّاب الذين ظلوا يثقفوننا بثقافة الثورة، ويشحنون أرواحنا بالغضب والتمرد. هكذا أرى الماغوط وغيره ممن حرثوا أرض الثورة ورموا بذورها وسقوها حتى أثمرت شباب سورية الرائعين، وبهذا المعنى تكون جينات الغضب الماغوطية قد تسربت في دماء الشباب العربي المثقف كله، وساهمت في انتفاضاته، أكثر من الأدعياء الذين يحاولون الآن ركوب موجة الثورة كأنهم أبطالها.
بدأ شغفي بالماغوط منذ صدرت مختارات من شعره ضمن مشروع ‘كتاب في جريدة’، سنة 2001 على ما أذكر. كنت وقتها قد انتقلت من القصيدة البيتية لقصيدة التفعيلة، وكنت أرى قصيدة النثر رجساً من عمل الشعراء محدودي الموهبة، لكن الماغوط أفحمني وأوقعني في مأزق كبير، فهاتفتُ صديقي أحمد الشيخ منفعلاً وقلت له إنني غيرتُ رأيي في قصيدة النثر. الحقيقة أنني أُخِذت بشعر الماغوط وانتهى بي الأمر بعد خمس سنوات إلى كتابة قصائد نثر كانت بداياتها متأثرة بالماغوط. كنتُ أشعر أن الماغوط ورّطني في غوايته لأنني كنت أقرأه فأشعر أن شعري لا شيء وأرغب في ‘قتله’ باعتباره أباً شعريّاً بالغ التوحش.
الآن أتذكر الماغوط حين كان يخاصم وطنه: ‘أمضي باكياً يا وطني…. لن تلتقي عيوننا بعد الآن، لقد أنشدتك ما فيه الكفاية’، ‘بلادي تنهار، ترتجف عارية كأنثى الشبل’، ويتشاجر معه بعنف مرعب: ‘إلى الجحيم أيها الوطن الساكن في قلبي، منذ أجيال لم أر زهرة’، إلى أن يلعن الإنسانية كلها: ‘آلاف العيون الصفراء تفتش… عن عاهرة اسمها الإنسانية’، كما يحكي انهزامه أمام المخبر’-أين كنتَ يوم الحادثة؟ -كنتُ ألاحق امرأة في الطريق يا سيدي’، مروراً بكل ما كتبه ضد بردى ودمشق، متوتراً بين استسلام أليم ‘ضع قدمك الحجرية على قلبي يا سيدي’ ونبوءة الثورة الجارفة التي تشتعل الآن: ‘هاهي عربة الطاغية تدفعها الرياح، وهانحن نتقدم كالسيف الذي يخترق الجمجمة’ و’هانحن نندفع كالذباب المسنّن، نلوّح بمعاطفنا وأقدامنا’، وأيضاً ‘فيها شعب يناضل بالتراب والحجارة والظمأ’.
لا يتسع المقام لتقصّي ما زرعه الماغوط فينا من ثورة، حتى حمزة الخطيب ورفاقه، شملهم الماغوط بحلمه ‘بقوى الأوباش النائمة بين المراحيض، سنبني جنينة للأطفال’. وكذلك يفعل الشعراء الكبار: يحلمون والشعب يحقق أحلامهم، ولو بعد حين. لذلك أضحك حين أرى وجه الماغوط الراسخ كجبل، يقود مظاهرات الشباب السوري ويرسم دروبهم؛ شكراً أبانا الذي في الثورة.
القدس العربي