صفحات الرأي

المبهم في خطاب الانتفاضات العربية


كرم الحلو

للتاريخ العربي في كل حقبة من حقباته مصطلحات أيديولوجية، بها تُعبأ الجماهير وتُحشد ردحاً من الزمن، ثم لا تلبث ان تتراجع وتخبو لتخلفها مصطلحات اخرى تنحدر الى المسار عينه. حشد الليبراليون الجماهير باسم الدستور والعدالة والحرية، وحشدها القوميون باسم التنمية والوحدة القومية ومواجهة الصهيونية، وحشدها ديموقراطيو نهايات القرن الماضي بدعوى دمقرطة العالم العربي والانخراط في التحول الديموقراطي الذي ميَّز العالم في تلك الآونة. وها نحن الآن ازاء مصطلحات ايديولوجية جديدة مثل مصطلحات الشعب والنظام والثورة والتغيير والعقد الاجتماعي والديموقراطية. هذه المصطلحات وإن كانت من الذي تم تداوله في الفضاءات الأيديولوجية السابقة، الا انها في هذه المرحلة التاريخية تحمل مدلولات مثيرة للجدل والالتباس. فـ«الشعب» الذي يهتفون باسمه في كل الساحات العربية، هل يشير في الحقيقة الى كتلة موحدة متماسكة كما يبدو في الظاهر؟ هل هو كل متجانس متصل متلاحم، كما قد يخيل للمرء لدى سماعه تلك الهتافات المدوية «الشعب يريد إسقاط النظام»؟ هل الشعب كله او سواده الاعظم يريد فعلاً إسقاط النظام؟ وهل من تصور للنظام البديل عند الذين ينادون بإسقاط الانظمة القائمة؟

الواقع ان «الشعب» في كل الاقطار العربية ليس في الحقيقة شعباً واحداً، بل هو «شعوب» قبائل، طوائف، عشائر، مذاهب، لم تصل الى الاندماج الوطني الجامع، فالدولة في العالم العربي لمّا تتجاوز بعد تكويناتها الفسيفسائية لترتقي الى الحالة المواطنية التي تتعالى على كل العصبويات لتصهرها في العصبية الوطنية او القومية الجامعة. فسرعان ما يتبدّد الوجه التوحيدي لأي حراك سياسي او اجتماعي لينزلق الى حراك عصبوي طائفي او قبلي او اثني يهدد الدولة بالتذرّر الى مكوّناتها العصبوية ما قبل الوطنية، ويضع وحدتها كدولة على المحك لأنها لم تفلح بعد في ايجاد القاعدة الايديولوجية للقبول بها اطاراً سياسياً وجغرافياً جامعاً موحداً خارج علاقات القهر والقمع التي تولد روح التنافر والرفض المهددة لوجودها ووحدتها من داخلها. لقد توصلت الدولة في الغرب الى صهر مكوناتها الى حد كبير يجعلها قادرة على تجاوز ازماتها المجتمعية في حين لم نصل بعد الى هذا المستوى من الاندماج في نسيجنا الاجتماعي، الأمر الذي يكشف هشاشة دولنا ومجتمعاتنا ويتطلب من دون مواربة إعادة النظر في مصطلح «الشعب» المتداول في الانتفاضات العربية والتعامل معه بتحفظ شديد. أليس ما يحدث في مصر وسوريا والعراق وليبيا واليمن والبحرين من انشطار في التوجهات والولاءات ومن نزاعات غير محتسبة، البرهان الساطع على ذلك؟

وكما هو مصطلح الشعب ملتبس وجدلي كذلك هو مصطلح «النظام» الذي يجب ان يتم التعامل معه من منظور نقدي يكشف جدليته والتباسه، فهل ثمة تصور محدّد في خطاب الانتفاضات العربية لبدائل الانظمة القائمة؟ وما هو النظام المرتجى؟ هل هو «النظام الليبرالي العلماني» الذي سيفضي الى الدولة المدنية، اي دولة الحرية والعقد الاجتماعي ومركزية الفرد في الوجود السياسي والاجتماعي، دولة المساواة المدنية التامة والمجتمع المدني المستقل، ام الى دولة محدّدة فقط بكونها نقيض الدولة الدينية او دولة العسكر من دون ملامسة الأسس والمرتكزات الايديولوجية لليبرالية؟

هل هو نظام يتصدى للانقسامات الاثنية والقبلية والطائفية والمذهبية المتجذرة في القاع السوسيولوجي العربي ام ستبقى هذه الانقسامات عائقاً امام اي تحول ديموقراطي فعلي وصاعقاً قابلاً للانفجار ازاء اي حراك سياسي او مجتمعي؟

هل هو نظام يواجه الانقسام الطبقي المريب والمتفاقم والذي يهدد المجتمعات العربية في الصميم وينذر بأفدح الاخطار على الأمن الاجتماعي ام سيبقى يتجاهل التحولات الاجتماعية وتعاظم الفجوة الطبقية في كل الاقطار العربية؟

هل هو نظام يتصدى للتخلف التنموي والعلمي العربي مترافقاً مع استشراء الفساد الذي ازهق في نصف القرن الماضي وحده ثلث الدخل القومي العربي الاجمالي؟ هل هو نظام يأخذ في الاعتبار بطالة الشباب المتعاظمة في عالم عربي 60 في المئة منه من الشباب؟ هل هو نظام يعيد النظر جذرياً في اشكالية تخلف المرأة العربية وأميّتها ودونيتها وهامشيتها في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟ وأية رؤية قومية سيطرحها هذا النظام؟ هل هي رؤية قطرية او اقليمية او وحدوية؟ وهل يمكن لأي نظام ان ينهض من دون الاخذ في الاعتبار الواقع القومي العربي وصراع العرب التاريخي والمصيري مع الصهيونية؟

لا يبدو ان هذه الأسئلة وسواها على سلم الاولويات في أجندة المطالبين بإسقاط الانظمة وفي ما جرى في العراق وما يجري في تونس ومصر وليبيا لدليل على الإرباك الذي تواجهه الانتفاضات العربية إزاء تناقض مآلاتها مع منطلقاتها وشعاراتها.

ومصطلح «الثورة» المتداول في الانتفاضات العربية الراهنة هو كذلك مصطلح اشكالي. فهل الثورة مجرد ردة فعل على الظلم والاستبداد، وعليه كل انتفاضة اندلعت في بلادنا العربية تدعى ثورة، اذ من رحم الاستبداد ولدت ومنه تستمد شرعيتها؟ ام ان الثورة اوسع وأبعد معنى ودلالة وتتميّز جوهرياً عن ردة فعل على الاستبداد قد تأخذ شكل تمرد او عصيان او انتفاضة او ما اصطلح على تسميته بالفتنة في مخزوننا التراثي؟ هل الثورة هي «إعادة إنتاج النظام في شكل جديد»، كما رأى احد المراهنين الى الانتفاضات العربية ازاء ما يساورها من مآلات بائسة، ام ان الثورة هي تغيير شامل وجذري يذهب الى الاسس والقواعد ويحمل قيماً جديدة وأفكاراً جديدة تَرسي مقومات مختلفة لعالم جديد ومختلف على ما جرى في الثورات المعاصرة التي تغير معها وجه التاريخ؟

ومن المصطلحات الاشكالية مصطلحا الديموقراطية والعقد الاجتماعي السائدين في خطاب الانتفاضات العربية والمتداولين بمعانٍ مغايرة لأصولهما الحداثية الليبرالية، وأول هذه الاصول اعتبار الفرد من دون سواه مصدر السلطة، وثانيها مبدأ المساواة الوطنية، وثالثها مبدأ العقد الاجتماعي باعتبار أن المجتمع تعاقد حر بين افراد احرار يقررون شكل علاقاتهم المدنية في ما يسمّى «المجتمع المدني». وقد انقضى زمن ليس بالقصير حتى اتجه الغرب الليبرالي والدستوري في الاتجاه الديموقراطي، ووضع هذه المبادئ موضع التطبيق، وأشراك الاكثرية الشعبية في العملية الديموقراطية. فبريطانيا، اعرق الديموقراطيات الحديثة، لم تتحول الى دولة ديموقراطية الا عام 1930، وفرنسا لم تصبح دولة ديموقراطية الا بعد مئة وخمسين عاماً على الثورة الفرنسية، فقد بقي حق الاقتراع في كلتا الدولتين مقتصراً على فئة من المواطنين، الامر الذي يتعارض مع التفكير الليبرالي الذي رفعا لواءه. فهل يحمل مصطلحا العقد الاجتماعي والديموقراطية في خطاب الانتفاضات العربية هذا البعد الليبرالي المؤسس لهما في الفكر السياسي الحداثي؟ هل تؤمن الحركات السياسية المؤطرة للانتفاضات، والتي تقدمت وتتقدم من دون هوادة في العمليات الانتخابية الراهنة في البلدان العربية، بالمساواة المواطنية الكاملة، إن بين الرجل والمرأة او بين المواطنين انفسهم؟ وهل تقر اصلاً، وبعضها لا يتردد في رفع شعار «الدولة المدنية»، بمدنية التشريع واعتبار القوانين والأعراف من صنع البشر وتعاقداً حراً فيما بينهم؟

كاتب وأكاديمي لبناني

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى