المتكلم السوري الجديد وسحرُ الحرية الخَطِرَة
بكر صدقي
قسم الصديق حازم صاغية المثقفين السوريين، بدالة مواقفهم من الانتفاضة الشعبية في سوريا، إلى “سياسيين” متحمسين للتغيير و”ثقافيين” حذرين يعبرون عن مخاوفهم مما بعده. وبرر للمجموعة الأولى حماستها بالنظر إلى تعفن الوضع القائم الذي لا يمكن توقع ما هو أسوأ منه. في حين لاحظنا تعاطفه مع حذر المجموعة الثانية بالنظر إلى التجارب الثورية السابقة في المنطقة العربية التي أنتجت الأوضاع القائمة اليوم. لكن حازم لن يغلِّب حذره المشروع نظرياً على مراراته المتراكمة من الوضع القائم، وسيختار ما يعتقد أنه الموقف العقلاني مطالباً بوجوب اللقاء بين الموقفين المتوازيين للمجموعتين.
واضح أن مدركات كالثورة والشعب والشهداء وما لف لفها تثير حساسية سلبية مفهومة عند حازم. فباسمها تم تطويع المجتمعات العربية وتركيعها ونهب ثرواتها وتصحيرها ثقافياً وسياسياً، وباسمها تم تحويل الجمهوريات إلى وراثيات عائلية فاسدة تنهب الثروات الوطنية وتعمم الفسادَ وسيلةً لشراء الولاءات وخلق تراتبيات اجتماعية تخدم تأبيد الحكم العائلي.
هل ما يحدث في سوريا اليوم ثورة؟ يتردد المرء في إطلاق هذه التسمية لأن حجم الاحتجاجات الشعبية لم يبلغ ما يتيح القول إن الشعب السوري ثار على نظامه الحاكم. ولأن قيادة واضحة لحركة الاحتجاجات لم تظهر إلى اليوم وتعلن عن نفسها وبرنامجها لسوريا الغد. لكن الثابت هو أن ثمة حركة شعبية مثابرة على الخروج وإعلان رفضها للنظام القائم وإرادتها لتغييره بالوسائل السلمية، على رغم مواجهة مسلحي النظام لها بإطلاق الرصاص. وأسبوعاً وراء أسبوع تنضم مناطق جديدة إلى الاحتجاجات، وتتوسع المشاركة على رغم تجاوز عدد الشهداء الألف، والمعتقلين العشرة آلاف.
تسمح لنا الشعارات التي يهتف بها السوريون في مظاهراتهم، بإدراج ما يحدث هنا في إطار عربي أوسع انطلقت شرارته الأولى من تونس وشملت إلى اليوم أكثر من عشر دول عربية. المشتركات بين هذه التجارب المتنوعة كثيرة، أهمها أنها سلمية وشعبية لعب فيها الشباب دوراً كبيراً، استهدفت تغيير أوضاع قائمة متشابهة تحكمها نخب عائلية مافيوية مخابراتية فاسدة، نحو نظام ديموقراطي يتأسس على عقد اجتماعي جديد وهوية وطنية جديدة قائمين على المواطنة وحقوقها وحرياتها، بما يفتح الأفق التاريخي المسدود أمام المجتمعات العربية. نجح التونسيون والمصريون في الإطاحة بالعائلتين الحاكمتين، ويستمر الصراع في البلدين بين القديم والجديد على أرضية الانتصار الشعبي الذي تحقق. في حين تتواصل حركة الاحتجاجات في اليمن وسوريا، وتحولت في ليبيا إلى حرب أهلية مسلحة وتدخل عسكري خارجي. أما في البحرين فلا يتيح التعتيم الإعلامي المفروض عليها معرفة الوضع، لكن الثابت هو قمع حركة الاحتجاجات بمساعدة تدخل عسكري سعودي، وآفاق مفتوحة على التطورات.
تحتمل هذه الثورات العربية الكثير من الجدل حول توصيفها أو التوقعات المستقبلية منها، لكن ما هو موضع إجماع لدى المتكلمين هو أنها قامت على أوضاع لم تعد محتملة، وأنها تبشر بفتح الأفق المسدود أمام المجتمعات العربية لتعود هذه إلى الانخراط في التاريخ والعالم بعد طول عزلة وركود. صفة المتكلمين المستخدمة هنا تشمل المثقفين بالمعنى الشائع لكنها أوسع من ذلك.
هناك نقلةٌ اختمرت خلال العقدين المنصرمين وتجلت في ثورات الربيع العربي، تقوم على اتساع رقعة التعليم والتعليم الجامعي من جهة، وثورة الاتصالات التي أدخلت العرب في قلب العصر ووصلتهم بالعالم على رغم العزلة المادية المفروضة عليهم، من جهة ثانية. ويمكن القول إن قطاعات اجتماعية تتسع باطراد باتت تمتلك وعياً مرهفاً بالأوضاع المتخلفة التي تحكمها، وتتوق إلى تجاوزها نحو الإمساك بمصيرها، بعدما تملكت أحدث الوسائل التكنولوجية وخبرة التعامل معها، وأتيح لها رؤية العالم المعاصر بالعين المجردة لا بواسطة مناظير أيديولوجية عفا عليها الزمان وطالما شوهت تلك الرؤية. إذن هي نقلة من النخبوية الثقافية إلى الجماهيرية الثقافية. وبصورة عامة، فئة المثقفين التقليدية ارتبطت بعصر الإيديولوجيات، في مقابل الثقافة الجديدة ابنة العولمة وأفول الإيديولوجيات. وهذا هو الفارق النوعي بين ثورات اليوم وثورات الأمس. في الأمس كانت نخب مثقفة مبصرة تقود الجماهير العمياء نحو الجنة الموعودة في الإيديولوجيات. فنتج عن ذلك ما نتج. اليوم نشهد نهوض جموع المتكلمين ونزولها إلى الشارع تطالب بالحرية، لا تقودها نخب مدنية أو عسكرية ولا إيديولوجيات. تريد الجنة الآن وهنا. الجنة الممكنة لا المستحيلة.
تشكلت لجان تنسيق محلية في المناطق التي تخرج فيها المظاهرات المناهضة للنظام في سوريا، هي التي تنظم المظاهرات الشعبية توقيتاً وتكتيكاً وشعارات مكتوبة أو مهتوفة، وترسم الأفق السياسي لها من خلال بياناتها المنشورة عبر الشبكة العالمية، بعدما اتصل بعضها ببعض. يلاحظ قارئ تلك البيانات نضجاً سياسياً ووعياً نضراً يثيران الإعجاب ويُطَمئِنَان المخاوف التقليدية. ومثلها الشعارات: لا للعنف، لا للطائفية، نعم للحرية، نعم للهوية الوطنية الجديدة التي للتو تتشكل. لا للشعارات الطنانة الجوفاء. لا للأصنام والصور. لا إله إلا الله. الله أكبر من أي صنم. ليس هذا شعاراً دينياً يثير هلع المثقف العلماني. بل هو فعلُ حرية للمتكلم العضوي الجديد المنفتح على العصر ولا يدير ظهره لثقافة مجتمعه. أتاحت وسائل الاتصال الحديثة لكل من يملك قولاً أن يقوله. نحن في مجتمع عالمي يتبادل فيه الناس أفكارهم ورؤاهم بحرية. ارتبط المثقف الحديث بالجريدة ذات الفلترة العالية. أما متكلم ما بعد الحداثة فهو يملك منبراً بلا فلاتر: انترنت وهاتف نقال مزود بكاميرا ومحطات تلفزيون فضائية. والأهم من كل ذلك سقوط حجاب الإيديولوجيا من أمام الأبصار، وتسمية الأشياء بأسمائها. اللغةُ اليومَ تُطالِبُ باستعادة براءتها المفقودة تحت وطأة الإيديولوجيا التي طالما أثقلت عليها.
انقسم المثقفون السوريون أمام الحدث السوري إلى مجموعتين، استمرت أولاهما في استخدام مناظيرها الإيديولوجية فرأت في الجموع الثائرة دهماءً تنذر بالشرور، وسعت الثانية إلى اللحاق بما فاتها من قطار العصر المنطلق بسرعة مدوِّخة إلى الأمام. أمام وضع فقد ركوده المديد المتعفن وسالت فيه الدماء بغزارة، حُشِرَ المثقف في زاوية ضيقة بين خيارين. ففضلت المجموعة الأولى الوضعَ القائم على المستقبل المجهول، وانحازت الثانية إلى الحرية الخَطِرَة. ومتى كانت الحرية بلا مخاطر؟