المثقفون الغائبون
عبدالله السويجي
المثقف طليعة المجتمع، يشارك في حراكه وتقدمه أو في سباته وتراجعه، له دور مهم ورائد في الانتقال بالوعي العام من مرحلة الجهل إلى مرحلة التنوير، من مرحلة التخلف إلى مرحلة التقدم، هذا ما نفهمه وهذا ما قام به المثقفون الحقيقيون في العالم المتطور وعلى مر التاريخ، ولم يتذرعوا بغياب الحرية أو مصادرة الرأي الآخر، فمهمة المثقف أن يتصدى ويحارب ويضحي، لا أن يحيا على الفُتات أو التبعية أو الخنوع أو العبث بالكلمات، وينتظر الآخرين كي يرفعوا له سقف التعبير . فالمثقف الحقيقي الوطني المنتمي الملتزم لا ينتظر معجزة تفتح له كوة في الجدار الأصم، وإنما ينحت بفكره ووعيه ويديه ليحدث تلك الفجوة، حتى يطل على النور، ويمشي خلفه العامة في إطار منظومة قيميّة وأخلاقية تزيد من التلاحم والتآزر وترتقي بالضمير العام . هكذا نفهم دور المثقف، ربما يكون فهمنا مثالياً وغير واقعي، كما قد يروق للبعض اتهامنا، ولكن الأفكار كلها بدأت مثالية وتعاركت مع المجتمع ثم التقت معه في منتصف الطريق، وحملته إلى حيث يجب أن يكون .
المثقف العربي منذ عقود، لم يلعب دوراً ريادياً في صياغة مجتمعه وتأهيله ليحيا في عالم يستفيد من الإنجازات العلمية والثقافية والإبداعية والإنسانية، وكان يفضل الانسحاب والهجرة كلما شعر بالخناق يضيق عليه، وهناك، في بلاد الحرية والتعبير عن الرأي، يتحول إلى (ردّاح) يشتم ويلعن ويتهجم، بعيداً عن الطرح الفكري الجاد والموضوعي والمتزن، بل إنه ينحاز فوراً إلى عصبيته وقبيلته ومذهبه، ويفتح جبهة تسهم في توسيع الشق بين مكونات المجتمع، ويتحول إلى سياسي رديء، وربما يبيع نفسه لأول من يدفع أكثر، وقد ينضم إلى معارضة هنا وأخرى هناك حتى يهندس له مكانة في وطنه من المهجر .
المثقف العربي منذ عقود وهو منقسم على ذاته، قسم مع السلطة حتى النخاع، وقسم متصادم معها بشكل مطلق، وقسم صامت ينتظر فرصة أو غمزة من السلطة للانضمام إليها وتحقيق مكاسب، وحين تحين الفرصة فإنه يمارس استبداداً لم يمارسه أصحاب السلطة أنفسهم، وأمامنا نماذج كثيرة، كانت (ثورية وليبرالية) في بداياتها، في طرحها وفكرها ولغتها وأشكال كتاباتها، فإذا بها تصبح من نسيج السلطات، يسحرها الميكروفون وظهور صورها في الوسائل الإعلامية، فتتعاظم الفردانية والشخصانية، وتوظف كل مَنْ حولها لتلميعها والكتابة عنها، وتوظف المؤسسات التي تعمل فيها أو تديرها لتمجيدها والتسلّق عليها، وتنسى مشاريعها الوطنية وربما الثقافية أو الإبداعية، وتلتفت إلى سلالتها البعيدة لإحيائها .
المثقف العربي صُدم بالحراك الذي يحدث في عدد من الدول، لم يتنبأ به لأنه لم يكن يمثل هاجساً له، وظل على الهامش منذ الخطوة الأولى في الشارع حتى الآن، وفي أماكن مختلفة، نراه وقد اعتنق المذهبية والطائفية والعنصرية وصار من أشد المدافعين عنها .
المثقف المذهبي أو الطائفي أو العنصري ليس مثقفاً حقيقياً وطنياً، وقد يختلف البعض معنا هنا ويقول إن المسألة نسبية، لا إنها ليست نسبية على الإطلاق حين يتعلق الأمر بمستقبل وطن واستقرار مجتمع والحفاظ على المكتسبات والإنجازات، ليست نسبية حين يتعلق الأمر ببناء أجيال وتوفير البيئة السليمة لهم وتحقيق الانسجام القيمي والإنساني والديموغرافي .
المثقف الصامت أيضاً ليس مثقفاً وطنياً، فالصمت ليس موقفاً، والبعض يرى أن الابتعاد والنأي بالنفس وعدم المشاركة في الحراك الثقافي الفكري المجتمعي الإنساني، وتغييب نفسه في طقوس لا تؤدي إلا إلى المزيد من الغياب، أفضل من الصدام مع الموجة العالية، والغرابة هنا تكمن في فرضية الصدامية، لماذا يجب أن يكون الصدام هو أسلوب المواجهة، وليس الحوار والطرح الموضوعي وتقبل الرأي الآخر والتفاعل معه ومحاولة تعديله أو تغييره من الداخل؟ الصمت هو إعلان الهزيمة قبل دخول المعركة .
مثقفون كثيرون ومن بينهم مبدعون يلتزمون الصمت من دون مبرر، ويتركون الساحة للثرثارين المتبجحين والمزايدين المنتشين بأنفسهم، الباحثين عن صورة هنا ولقاء صحفي هناك، وهذا الصمت هو تعطيل قصدي للفكر، وتجميد للاجتهاد وتعطيل للحوار .
منذ عقود لم يظهر علينا مفكر عربي يقدم نظرية اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو فكرية لائقة ومبتكرة، باستثناء بعض الدراسات التي لم ترقَ إلى الفكر الصافي والنظرية الفكرية الأصيلة، بل كانت نقداً لفكرة محددة أو نظرية معينة، أو لكتاب صدر في الغرب وأثار ضجة هناك، وفي الواقع، فإن السبب لا يكمن في الأمية المتفشية أو في عدم وجود بيئة بحثية، بل السبب يكمن في غياب روح البحث وتحمّل المشاق بمختلف أشكالها، ويكمن في الاعتقاد أن النظرية الفكرية يجب أن تؤتي ثمارها في اليوم التالي، شأنه شأن الشاعر الذي يعتقد أن قصيدته ستحدث انقلاباً، فإذا لم تفعل ذلك فإنه ينسحب من المشهد الشعري، أو يدخل في تهويمات غريبة وعجيبة، ويغرّب كتاباته وأفكاره، حتى إنه قد يغادر بلده للعيش مع قبائل هندية أو إفريقية أو آسيوية ليمارس طقوسه الوجودية أو الروحانية، وقد يكون خياراً مقبولاً من قبل البعض، من وجهة نظر البحث عن الذات، لكن الذات، كما نفهم، تجد نفسها مع الآخر، الإنسان، للارتقاء بإنسانيته ومجتمعه .
ما يحدث في الوطن العربي من تغييرات، وما أدت إليه هذه التغييرات يدل على أن المفكرين العرب – إن وجدوا – كانوا بمعزل عن فهم طبيعة مجتمعاتهم، نظروا إليها بخيالاتهم، ولم يقوموا بأي دور، ولم يتركوا أثراً، وإن المثقفين كانوا في عوالم أخرى لا تمت إلى مجتمعاتهم، إذ لم يتنبأ أحد بظهور تيارات أصولية متطرفة تلعب دوراً محورياً في سياسات الدول، ولم يتنبأ أحد أن تنشب حروب أهلية في أكثر من بلد عربي، كانوا يعتقدون أن العولمة فعلت فعلها ونقلت العرب إليها، وكانوا يعتقدون أن تكنولوجيا المعلومات والاتصال حققت التواصل مع العالم المتمدّن، لكن ما حدث بعد ذلك أكد أنهم فشلوا في اعتقاداتهم، ولهذا، فإنهم يتفرجون فقط من دون أن يتمكنوا من القيام بأي خطوة، لأن الموجة أعلى منهم، ولأن القطار فاتهم .
هل يستطيع المثقف العربي تدارك أخطائه التاريخية والعودة إلى مجتمعه بدل الانبهار بالتجارب العالمية البعيدة فقط؟ هل يستطيع القيام بدور رغم علوّ الموجة ومضي القطار؟
السؤال مطروح للمثقفين الحقيقيين الوطنيين الذين يحلمون بوطن يحتضن الجميع، ويعملون من أجل وأد الفتن المذهبية والعقائدية والعرقية . . السؤال مطروح للمثقفين الذين لديهم قناعة كبيرة بثراء ثقافاتهم وقدرات مجتمعاتهم، أما المثقفون الذين يعتقدون أن المشاركة المجتمعية وبناء الأوطان يتمان من خلال جلب نماذج جاهزة من هنا وهنا، فهؤلاء سيبقون في حالة ضياع أبدي .
الخليج