المثقفون والجنس والثورة: “إني مُصاب بالزهريّ العظيم”/ أحمد شوقي علي
يتطرق كتاب “المثقفون والجنس والثورة” للكاتبة الفرنسية لور كاتسارو(*)، الذي صدر في لغته الأصلية، تحت عنوان “عاهرات وعُزَاب”، لنموذجين أثارا رعب المجتمع البرجوازي في فرنسا خلال القرن التاسع عشر، هما الدعارة والعزوبية، فتحول المجتمع بكل أطيافه جيشاً لمواجهة هاتين “الآفتين”.
تكشف كاتسارو أن العزوبية التي رفع لواءها أدباء وشعراء احتلوا مكانة عظيمة في التاريخ الإنساني، مثل بلزاك وبودلير وفلوبير وسارتر وستندال؛ تجسد موقفًا فلسفيًّا ضد التقاليد الإنسانية، وفي الوقت نفسه ثورة اجتماعية على أخلاق الطبقة البرجوازية. فالأعزب، هو ذلك “المتمرد اللا اجتماعي”، لا يعترف بوجوده أحد، أما العاهرة فهي “العفنة” من وجهة نظر المجتمع، والموبوءة التي تهدد سلامته واستمراره، فكانت حياتها في بيوت الهوى أشبه بالسخرة، فهي تمارس الجنس مقابل اللقمة والمأوى، والمحكوم عليها دائمًا بذلك المصير السيء. ورغم أن المجتمع كان يحث في خطابه، العازب على الزواج، إلا أنه كان يجعله مستحيلًا على العاهرة، فهي إن قررت تكوين أسرة يكون من المستحيل أن تقنع الشرطة بمحو اسمها من سجلات الدعارة، وكأنه محكوم عليها بالفناء.
وتذهب كاتسارو في دراستها، إلى تتبع سير العاهرات من خلال الأعمال الأدبية والفنية لمبدعي القرن التاسع عشر الفرنسي، وهو ما يعتبر بحسب الكتاب، السجل الحقيقي لحياة العاهرات، في مقابل تسجيلها الرسمي من خلال مذكرات بعض السياسين ودراسات بعض الأطباء النفسيين ومفتشي الشرطة في باريس، ورغم ذلك فكاتسارو تعتبر أن ذلك كله ليس التسجيل الحقيقي لنمط حياة العاهرة، إذ أن ما سبق كله كان يعكس وجهات نظر المتعاملين مع الدعارة، في حين يندر وجود شهادات مسجلة للعاملات بها.
ويوضح الكتاب أن حياة المجون الليلية للكتّاب، كانت الموضوع الرئيس لحواراتهم في الصالونات الأدبية، إذ كان غوستاف فلوبير ورفاقه يتباهون بمرض الزهري وبتقرح يصيب العضو الذكري، كدليل على فحولتهم وقدرتهم على مضاجعة أكثر من امرأة، ومن المعروف أن غي دي موباسان أنهى حياته متأثرًا بهلاوس وأوهام في عيادة الدكتور بلانش في باريس، جراء إصابته بمرض الزهري والذي تطور ليصيبه بالذهان.
الزهري، مرض الذي مثل الرعب الأكبر للطبقة البرجوازية، باعتباره يصعب الشفاء منه، حتى ان الأطباء الفرنسيين ذهبوا إلى أنه مرض يورث. وكلما خاف البرجوازيون منه، عظّم الكتّاب من شأنه. ففي خطاب إلى صديقه روبير بينشون، كتب موباسون متفاخرًا، متجاهلًا النهاية البشعة التي تنظره: “نعم، أنا مصاب بالزهري وليس السيلان.. لا أملك الكريستال الإكليريكي، ولا عرف ديك كمثل الذي يملكه هؤلاء البرجوازيون، ولا أملك حتى القرنبيط.. لا لا، انني مصاب بالزهري العظيم، ذلك الذي مات به فرانسوا الأول.. إنني لفخور بذلك رغم أنها مصيبة، لكني أحتقر قبل كل شيء هؤلاء البرجوازيين”.
ولا يعود شغف بعض الروائيين في ذلك الوقت بالدعارة، إلى السحر الذي يحمله ذلك العالم، أو رغبتهم في كشف الجوانب الأكثر قذارة في المجتمع. فرغمًا عن أنفسهم، تجعلهم العاهرات –بحسب كاتسارو- يقفون أمام المرآة ويرون صورتهم المنحطة، فالكاتب كان يرى في عرض أعماله للبيع انتهاكًا لخصوصيته. وطبقًا لفلوبير، فإن العمل الذي ينتزعه الكاتب من أمعاء المجتمع ليقدمه إلى الطبقة البرجوازية، يصل إلى الجمهور، وفي تلك الحالة فإن “الجمهور يصل إلينا عبر مروره على الأجساد”، إنها “الدعارة في أحط وأحقر درجاتها”.
كان الأعزب والعاهرة متهمين دومًا بتراجع فرنسا على المستوى الديموغرافي. فالعزوبية كانت سببًا في مخاوف ديموغرافية ضخمة، بسبب انتشار فكرة رفض الزواج في الفترة من 1875 حتى 1900، ما أدى لانخفاض نسبة المواليد، لا سيما بعد الهزيمة العسكرية المذلة لفرنسا أمام ألمانيا في العام 1870. وكان دائمًا يُشار بأصابع الاتهام إلى العزاب الذين يرفضون الإنجاب، على أنهم السبب في أن البلاد لا تملك ما يكفي من شباب للأخذ بالثأر من ألمانيا. فبينما الشعب الألماني كان ينمو ديموغرافيًّا بسرعة كبيرة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، كان الشعب الفرنسي يعطي إحساسًا بالركود، فكان رفض الإنجاب بمثابة الخيانة. وقبل ثلاث سنوات من اندلاع الحرب العالمية الأولى، وقف جاك برتيون، مدير مكتب التعداد والإحصاء في باريس، على الملأ ليعنف مواطنيه قائلًا: “كل رجل يقع عليه واجب المساهمة في استمرارية بلده، كما يقع عليه واجب الدفاع عنها”.
ومثلت الظاهرة أرضًا خصبًا للأطباء النفسيين، الذين دخلوا الحرب شاهرين نظرياتهم كأسلحة فتاكة في وجه الأدباء في المقام الأول. فوصف الطبيب النفسي ماكس نوردو، روائيين مثل زولا وأويوسمانس، بأنهم: “حفنة من المخصيين عقليًّا، غير القادرين على إنجاب عمل حي، لكنهم يقلدون عملية الإنجاب نفسها”، ويضيف نوردو: “ان مثل هؤلاء يطفئون أنفسهم بأنفسهم؛ لأن الانحطاط لا يمكن أن يكون له نسل ممتد”.
كما ذهبت الدراسات النفسية، التي يعرضها الكتاب من تلك الحقبة، إلى أن الأعزب يكون أكثر عرضة للانخراط في الجريمة والإغراق في الجنون والميل للانتحار، من الرجل المتزوج، ويتوافق ذلك مع آراء متخصص شهير في الصحة النفسية، آنذاك، هو أوغست ديباي الذي يرى أن “العزوبية تؤدي إلى تشوهات عقلية واضطرابات تناسلية، فغالبًا ما يكون الأعزب مصابًا بحالة من الإثارة المستدامة، واحتقان دائم في الخصيتين، وتسيطر عليه هيستيريا الشهوة”، وتبعات ذلك قاتلة بكل تأكيد “إذ يأتيه الموت مصحوبًا بتشنجات مرعبة”. بينما وضع الدكتور سيزار لومبروزو، الذي ابتكر مصطلح “عاهرة الميلاد”، قائمة من التشوهات الجسدية والفيزيولوجية، ويخلص إلى أن العاهرة لديها جمجمة أقل حجمًا، وفك أكثر عظمًا من المرأة العادية، وتتميز أيضًا بالميل إلى زيادة الوزن، والإفراط في إطالة الشعر، ولها حنجرة سميكة، وهو ما يفسر فيزيولوجياً الصوت الأجش الذي يميز العاهرات. وبشكل أعم فإن العاهرات، طبقًا للومبروزو، يتميزن عن النساء الأخريات بخصائص رجولية “الحنجرة والجمجمة والوجه، تتفجر سمات الرجولة الخاصة بهن”.
في الفصل الأخير، تناقش المؤلفة كتاب “عالم جديد من الحب” لشارل فورييه؛ نظرًا لأهميته واختلافه عن الخطاب السائد في ذلك القرن، فقد قلب رأسًا على عقب التعريفات المقبولة عن: الحياة الطبيعية السوية، وعن الشر والضلال، فكل ما كان يعتبره القرن الـ19 عاديًّا سويًّا، كان فورييه يراه شرًّا وضلالًا والعكس بالعكس. من وجهة نظر فورييه، فالداعرون الذين اعتبرهم معاصروه مارقين، بالنسبة له ليسوا سوى أبرياء، لأنهم لم يفعلوا سوى إتباع ما أملته عليهم الطبيعة.
(*) “المثقفون والجنس والثورة”، تأليف الأكاديمية الفرنسية لور كاتسارو، وترجمة محمد عبد الفتاح السباعي، طبعة يناير دار صفصافة للنشر/ القاهرة.
المدن