المثقف العربي والحاكم” لحسين العودات
كلما ابتعد عن السلطة اقترب من الرؤية الخلاّقة للواقع
خالد غزال
يتطرق الكاتب السوري حسين العودات في كتابه “المثقف العربي والحاكم” الصادر عن “دار الساقي”، الى موضوع قديم جديد متصل بالعلاقة بين المثقف والسلطة، فيتناول تعريفات الثقافة والسياسة والمثقف والتصنيفات التي رافقت دوره، وصولا الى العلاقة بين المثقف والسلطة والحاكم، بما تحويه من قراءة في المثقف والحزب، وحاجة المثقف الى الحرية.
يقدم الكتاب نماذج عن مثقفين عرب عانوا الاضطهاد ابتداء من حسن البصري وغيلان الدمشقي وابن المقفع واحمد بن حنبل والحلاج وابو حيان التوحيدي وابن رشد، وفي العصور الحديثة عبد الرحمن الكواكبي وعلي عبد الرازق وشهدي عطيه الشافعي وسيد قطب وعبد الخالق محجوب ومحمود محمد طه وحسين مروه وفرج فوده ونصر حامد ابو زيد وغيرهم.
يقول العودات في شرحه للعلاقة بين الحاكم والمثقف: “لا تزال السلطة منذ فجر التاريخ حتى اليوم بحاجة الى المثقف، لأنه هو القادر على صياغة سياساتها ونشر أفكارها والعمل على تطوير وعي الناس لمصلحتها، ويؤدي المثقف عادة دور الوسيط بين السلطة والشعب، أي بين الحاكم والمحكوم، لأنه اذا كان مواليا للسلطة يسعى الى اقناع الناس بسياساتها، ودائما ما تحتاج السلطة الى المثقف الذي يؤدلج لها مواقفها وينظّر لسياساتها وممارساتها، ويضفي المشروعية على عملها”. لكن السلطة تمارس سياسة مركبة تجاه المثقف، فما تريده بالتأكيد هو الانحياز إلى موقفها، وفي حال الرفض واتخاذ موقف المعارضة من جانب المثقف، فإن مصيره يتأرجح بين اتجاهات متعددة. يقوم الإتجاه الأساسي على القمع العاري، من الإعتقال وممارسة التعذيب لتطويع رفضه، الى السجن وما يرافقه من الإذلال والمهانة، وصولاً الى التصفية الجسدية، ومن كان حظه جيدا يكون مصيره المنفى. هذه العلاقة مع المثقف مارستها جميع الأنظمة العربية من دون استثناء تجاه مثقفيها. لعل الأدب الذي صدر عن حياة السجون في العالم العربي والممارسات ضمنها تجاه المثقفين يكفيان للدلالة على نمط العلاقة التي تريدها السلطة مع المثقف. إضافة الى اسلوب القمع العاري هذا، لجأت الأنظمة العربية الى استيعاب المثقف وتدجينه عبر الحاقه بمواقع بيروقراطية، وتقديم المغريات التي تجعله في خدمتها. قدم النظام العربي، خصوصا الناصري منه، نماذج واسعة من تطبيقات هذه السياسة.
يعطي الكاتب حيزًا لتكوّن نمط من المثقفين خلال مرحلة الصعود النهضوي، وذلك في إطار الأحزاب السياسية، ولاسيما اليسارية منها. صحيح ان مثقفي الأحزاب كانوا منظّرين للخط السياسي لهذا الحزب او ذاك، لكن المؤسف انعدام العلاقة الديموقراطية بين المثقف الحزبي والجمهور الحزبي. تؤشر المذكرات السياسية لقادة أحزاب يسارية الى هذا الواقع، الذي جعل المثقف في خدمة سلطة الحزب بشكل أعمى.
إلى ذلك، كان للمؤسسات الدينية سلطتها على المثقف. من المعروف تواطؤ المؤسسة الدينية مع السلطة السياسية ضد المثقف النقدي والمعارض والساعي الى التغيير، فقد “ساهمت غالبية الفقهاء ورجال الدين والمثقفين الانتهازيين الدلسين الطارئين في تبرير العقوبات على المثقفين، وتكفير المثقفين وتخوينهم، ومباركة البطش بهم. ولم تقتصر هذه العقوبات على عصر بعينه، بل حصلت في مختلف التاريخ العربي الإسلامي”.
اذا كان المثقف العربي قد مارس دورا إيجابيا في مرحلة النهوض القومي العربي، إلاّ ان الهزائم التي منيت بها بعض الأنظمة العربية عسكريا أمام العدو القومي، وسياسيا من خلال فشلها في تحقيق برنامج التقدم والديموقراطية، الذي تحوّل الى ممارسة استبدادية قمعية، وضعت المثقف العربي أمام امتحانات ضخمة لا تزال ارتداداتها جلية حتى اليوم. نجم عن الهزائم العربية تراجع في موقع الدولة لصالح البنى العصبية من طائفية وعشائرية، وما تبعه من انتقال الولاء الى هذه العصبيات على حساب الدولة التي ترمز الى مرحلة من التقدم والحداثة او التحديث. أصاب هذا الزلزال المثقفين الذين راوحت ولاءاتهم بين السلطة والمؤسسة العصبية، وانحاز قسم كبير منهم الى الولاء الفئوي، بحيث باتت المنطقة العربية مرتع ازدهار لمثقفي الطائفة والعشيرة والقبيلة والإثنية. نسي كثيرون منهم الموقع المهم للمثقف في النهضة والتنوير المطلوب عربيا بالحاح، وازدهرت كتابات هؤلاء المثقفين تبريرا وتسويغا للممارسات الفئوية، فنتج فكر ليس من المبالغة وصفه بأنه من سقط المتاع.
مع انتفاضات الربيع العربي، بكل ما تحمله من خضات سياسية وفكرية، يقف المثقف العربي أمام امتحان صعب جدا، سواء في الخيارات التي يجب ان ينحاز اليها، او في اللحاق بالأحداث وانتاج فكر يرشدها ويستفيد من حراكها. يقدم المشهد الثقافي المتصل بمواكبة الانتفاضات والتعبير عن محتواها، صورة سوريالية عن الضياع والفوضى وعدم القدرة على فهم الزلزال الحاصل في المنطقة، وضرورة إعمال الفكر في استنباط الأجوبة عن الأسئلة الكثيرة والكبيرة التي تطرحها هذه الانتفاضات. كثيرا ما شهدنا انتقال المثقف من موقع الى موقع، ومن رأي الى رأي، وخصوصا ان معظم المثقفين لا يزالون أسرى دوغمائية تمسك بتلابيب أفكارهم وتمنعهم من تلمّس الجديد الذي تطرحه الانتفاضات، بنيويا وفكريا وسيايسا.
يحتل كتاب حسين العودات موقعه اليوم من خلال النظرة النقدية لدور المثقف في علاقته بالحاكم، بما يجعله مكتسبا للراهنية وسط الحراك الصاخب والملتبس الذي تضج به المنطقة العربية.