المثقف العربي يتسربل بالسوداوية رغم ربيع الشارع
جمال القيسي
تستحيل صورة المثقف العربي المندغم باختياره في إطاره الثقافي الضيق على التصديق؛ ذلك أنه رسم لذاته حيزا محددا، ومرسوما بعناية فائقة من حالة التقوقع على نفسه في مخاطبة الآخرين عبر مشروعه الثقافي الذاتي فقط، والإيمان المتطرف بأنه منذور من دون البشر للبقاء بما هو فيه لا أكثر منه، ودون المشاركة و/أو الانخراط في اي مجال آخر..
ولئن يتأوّل في التموضع الثقافي الذاتي المثير للاستغراب، فإنه عمليا منسجم مع الابتعاد والنأي بكليته عما يعصف به من أحداث، خلقتها الثقافة اكثر مما خلقتها السياسة في احايين كثيرة، وعلى طريقة بالايمان الخرافي بحالة البناء المتأني للحرف والكلمة التي تعيش زمنا غير معروف في ذهنية المجتمع لتؤثر فيه وتشكله..
ولقد تخلى المبدع العربي كذلك عن دوره الاستشرافي منذ ما يزيد على ستين عاما، مرتهنا الى التثاؤب الكتابي / الابداعي، وأنه يسير في ركب غير معني بما يحيط به مباشرة، وبحجج الاستئثار بالحد الاقصى للمونولوجات الداخلية الواهمة في نفسه من التبشير بولادة المشروع الادبي الذي يرعاه او يسهر على بلورته في أذهان المجموع (من الناس والنخبة على السواء).
ولقد سخر الشارع العربي بربيعه من صولجان المثقف العربي وبرجه في غير موضع؛ حين تفتح وأينع بعيدا عنه، لا بل وبمنأى جلي عن فلسفته الصعبة، وقدم الشارع رؤية حقيقية ومتجذرة ذات بعد ثقافي حقيقي خالص بعيد عن التردي والنكوص الى حالة الثقافة الخاصة النخبوية المطلة على الاشياء من عل، والراسخة والمتفردة كوحدة انعزال بفعل العادة وسنة التاريخ .
والحق أن هذه السلبية الموغلة في السوداوية قد ساعدت المثقف العربي على تجذيرها في نفسه، منذ استهان بما لديه، وارتكن راضيا للقليل وبالقليل من الهامش الذي يوليه اياه المجتمع وعلى رأسه وجهة نظر السياسي فيه، ومنذ قبل ان يكون العزاء به في تلك الحكمة الخالدة التي يتغنى بها من عدم استواء الظروف ‘للعباقرة’ من فئة الناس على مر العصور..
وظل المثقف العربي على مدار ما يزيد على سبعة عقود مضت متنازلا عن دوره الشمولي والموسوعي في المعرفة، والتي تحتوي بالضرورة على الموقف السياسي الذي يتخذه بحكم موقعه من الاشياء، بدلا من ان يكون الحكم والانطلاق من موقعها منها، سواء بالاندغام في ايديولوجية تخالف وجهة نظر النظام السائد، أو برؤية تؤسس لرؤى متساوقة ومتجاورة للخروج بمشترك يبنى عليه وبصورة لا تغتال المختلف على حساب المؤتلف..
وأبى المثقف العربي التعامل بايجابية وإشعال مصابيح التنوير باصابعه التي أحرقها السياسي في اكثر من منعطف تاريخي، بالرغم من الدعوات الحارة التي يفيض بها لسان المجتمع له لامتشاق سيف العمل الحقيقي والجاد، والجأر عليه للغوص في معتركات السياسة، والتشريح بالموقف والانخراط في لوحة مدخلاتها، كي لا يأسى متأس على غرائبية مخرجاتها، ولا واقعيتها العجائبية التي تقارب الفانتازيا الصارخة..
وظل حاله المزري على قعود مريب واستهتار غير مبرر من الأهوال التي تعصف بالزمان من حوله، ومن تبدلات التاريخ والجغرافيا، التي شاءت بدل أن يشاء لأنه لم يكن قابلا لنفسه الا ان يكون شاهدا صامتا لا يقبل بغير القدرة الجامدة على التسجيل المرئي والمسموع لما جرى، وبنفس الوقت منزوعا من هالة الاستشراف الذي هو اولى مهماته، وأولاها وأدعاها الى التقدير..
وراح المثقف العربي يبرر تقاعسه بالاستقلال/الانعزال عما يمور به المحيط مشددا على أنه لن يخطئ في الجبهة المضللة في حركة الاشياء، وظل يعيب على السياسي احتكاره للمنابر كافة بما فيها المنابر الثقافية التي ليست له، وجاء تشريحه وتنظيره للأمر أدعى السخط عليه منه الى التعاطف معه، ذلك ان الضحية التي ترفض الصراخ جبنا لا تستحق أدنى درجات التعاطف بالمطلق..
لا بل راح يعدد خساراته على غير صعيد، وفي غير صعيد، ويكشف سوءة الانفراد به، وتفرد حالة مصادرة حقوقه من بين باقي الفئات، دون ان يستعمل سلاحه الحاد من ادوات الثقافة المضادة للاحتلال النفسي اللامعقول الذي وقع في حبائله، ومن دون ان يرف له جفن من تأنيب ضمير ثقافي متوار في دهاليز روحه، أو ضوء شحيح من وازع ايمان برسالية الدور المنذور له..
ولم يسلم بالتالي نتاج المثقف- والصورة على هذا النحو من اللاجدوى والسلبية- من الحالة الشوهاء التي تعني الفكر والابداع هنا والذي تنطلق منه كتداعيات طبيعية، ذلك أن الإناء يفيض دائما بما فيه، وأن جيوش الخوف من زوال القليل المتاح رصد لحالة من رد فعل سطحي، من الانسياق وراء انزياحات للسقوط في فخ ‘تقديم اكثر مما هو مطلوب منه’ ما يعني التجذير والتكريس له كحالة إقصاء وتهميش..
وسيظل الحال من السلبية والاستلاب الى زمن يستل فيه المثقف العربي من أدواته ما يستطيع به اقناع نفسه قبل السياسي والآخرين بأن له من الكينونة المتفردة والدور التنويري الحقيقي ما لا يتوافر في احد سواه، وأن يؤمن بوحي قلمه، واستناده الى عمق المعرفة التي ينهل منها اسس بقائه ونموه، وتأثيره بالنتيجة التي يتوخاها منه رجل الشارع قبل قاتلي ‘الفكرة’ التي لا تنبت الا على ضفاف افكاره الابداعية ولا علاقة للسياسي’الحزبي والسلطوي’ بها..
وأنه حتى لا تضيع منه هذه الفرصة- وربما للأبد – عليه النأي بذاته عن قوقعة الوهم القاتل الذي يتجرعه بروح مترعة بمعاني الزهد، بما لدى الآخرين ببوق الكذبة الكبيرة التي تزرع في نفسه أنه منذور للزهد في كل شيء، والتي إن صحت الى حد ما كسلوك عفوي يقع للبعض، الا ان منتهى الخطورة هو أن يتم التنظير لها على أنها الأصل الذي نعرف عليه صورة المثقف وبها نتعامل معه ومع وجوده، ومع ما ينتج ويبدع..
القدس العربي