المثقف خلف عربة القاتل/ فوّاز حداد
حذاقة المثقفين الذين اتخذوا مسافة متساوية من الثورة والنظام، لا ريب فيها، ما دام أنهم يسيرون على منوال أولئك الذين لا يجدون بأساً في التواجد في صف السلطة والمعارضة في آن واحد.
يستغل هؤلاء أن الثقافة تسمح لهم بتحقيق توازن لا يضيرهم في الحاضر، مع الأمان في المستقبل مهما كانت النتائج. ومن الطريف أنهم يتوالدون بكثرة في الأزمات، ما يبرهن على صحة نظرية حفظ النوع.
يُشاع أن الثقافة ترتبط بالعدالة، والمثقف بالحقيقة. الواقع أن الثقافة لا ترتبط بالعدالة ولا المثقف بالحقيقة. أبرز ما قام به هؤلاء المثقفون في السنوات الأخيرة كان التلاعب بالعدالة، والتنصّل من الحقيقة. الفكر لا يعني الأخلاق، ولا يبرر الانتهازية.
لا تحتاج حقيقة الأنظمة الديكتاتورية إلى ثقافة ومثقفين لاكتشافها، فهي لا تخفي نفسها. الحرب التي باتت عبثية، أصبحت بحاجة إلى التذكير بأن الاحتجاجات كانت عادلة وأخلاقية. وإذا كان على المثقفين من مسؤولية ما زالت مطلوبة، فالانحياز إليها أو ضدها. لكن بعضهم اعتاد أن ينحاز إليها، بينما هو ضدها.
تلك مهارة تتبدى في تحويل النظر عن أحقيتها. ما يُزعم أنه حياد إزاء ما يجري، اعتقاد يليق بثقافة متأملة لا ترى البشر في مرآتها، إلا من خلال شعارات تهدر قيمة الإنسان وترفع النظام كأيقونة لا تمس، وتنظر إلى رجاله بوصفهم حماة الدولة، وكأنهم لم يوجدوا من أجل الناس، بل لتأديب الشعب أو قتله.
الترفع عن النظام والثورة، تحت زعم اتخاذ موقف نزيه، هو موقف غير نزيه. فالحقيقة تفقأ العينين. وهذا الموت المستمر منذ نحو أربع سنوات، أتاح المتاجرة بالشهداء من دون تعيين، والتباكي على الدمار، والتعامي عن مجرم لم يتنكّر لجرائمه، واتهام الضحايا بأنهم ضحوا بأنفسهم في الزمان الخطأ، والتحقوا بثورة مدفوعة الثمن، وكذلك اتهام المحتجين بالضلوع في مؤامرة كونية، والتماس أعذار للنظام بحجة القتل على أنه مقاومة وممانعة. كل هذا يصب في خانة إخفاء تاريخ طويل من القهر والقمع والعسف.
تتميز الثقافة عموماً بأنها قابلة للتغيّر البطيء، وأحياناً للتقلّبات على إيقاع متسارع، بحيث تتطلب مجاراتها اللهاث وراءها. ومثلما تعرّفنا على البطيء منها، نعمنا بين حين وآخر بتقلباتها السريعة، ما دام هناك مَن يشجع على التقلّب، ويشارك فيه، ثم ينقلب عليه.
شهدت المنطقة ربيعاً، حسدَنا عليه الغرب نفسه، احتوى في داخله الوعود مع الرعود، والبشائر مع الزمهرير. كانت الموضة الشائعة خلال الأشهر الأولى من الثورة، أن مطالب المتظاهرين محقة، والأنظمة مدانة. هذا ما توافق عليه المثقفون، حتى أن ثمة مَن أصدر منهم تعميماً بالالتحاق بها، ثم انقلب عليها، وأصدر تعميماً بالتراجع عنها، تحت شعار الحياد، بعدما قدّمت “القاعدة” و”داعش” وأمثالهما هدية إليه لا يستهان بها.
ادعى هؤلاء أنهم طالما حذروا من هذا الخطر، وسرعان ما عثروا على صلة نسب بين الإسلام وقطع الرؤوس، وبين الأنظمة والعلمانية، فانهالوا على الثورة بالاتهامات، ونفوا عن الربيع مطالبات المحتجين بالكرامة ورفع الظلم وإنهاء نظام لا يتجرأ على الإصلاح.
بات من الطبيعي أن تصبح الثقافة إيجاد ذرائع للتنصل مما تقتضيه العدالة. تلك مأساة سنعاني منها طويلاً، مادام في دفاع المثقف عن الطغيان، وانحيازه له، تحت راية العلمانية، مسوّغ لعدم مبالاته بآلام الناس. غير أن اللامبالاة توازي القتل. ومادام هناك أرواح تزهق، فصمت المثقف يوازي مرتبة القاتل.
مهما تنوعت مهارات المثقفين، فهي إما لترسيخ معايير فكرية، أو للتحايل عليها. وكما يقول توماس كارليل: الفكر لا يعني “الحكمة”؛ يمكن أن يكون هناك فكر “غير حكيم”.