المثقف واستعادة الدورالطليعي
إبراهيم اليوسف
“إذا أردت أن تعرف مدينة فاقرأ لعلمائها”
أحدهم
بات واقع المثقف، والدورالمناط به، يثاران مرة أخرى، في ظل مايجري في العامين الأخيرين، بعيد شرارة ثورات المنطقة التي أطلقها البوعزيزي، في 17 ديسمبر2011، على غيرعلم منه، بماهوفاعل، حيث يتم استقراء وظيفة هذا المثقف، ووضعها تحت المجهرالنقدي، وذلك في ظل بروز الحاجة إلى دوره، لاسيما وأن هناك تقويماً يجري له، انطلاقاً من مدى تفاعله مع اللحظة التاريخية التي يمربها مجتمعه، وذلك في ظل معاييرذات أرومة معروفة، تتعلق بدرجة وعي هذا المثقف، وتموقعه، ضمن مشهد المجريات الجديدة التي تكاد تكون مختلفة عما دأبت عليه التقويمات السابقة، ضمن ظروفها الخاصة، ماأدى إلى ألا يبقى للمثقف، أي مسوِّغ، في ماإذا تجاهل مايدورمن حوله، أياً كان سبب ذلك، لأن القضايا التي تجري باتت أكثر إلحاحاً، وهي لتتطلب منه، إبداء رأيه، فيها، سلباً أوإيجاباً، بالرَّغم من أن إبداء مثل هذا الرأي لهو محفوف بالحساسية، و الأخطار المحدقة،على اعتبار أن إبداء الرأي، لم يعد مجرد موقف-فحسب- قد يصيب، أو يخطأ، بل إنه مسؤولية كبرى، تزجُّ به في خندق ما، موائماً أو مناقضاً، جملة المصالح الكبرى، وهي مصالح الوطن والمواطن.
إن حجم التطورالهائل الذي تشهده أربع جهات خريطة العالم، وبروز دورثورة الاتصالات،على حين غرَّة، وقفزالحدث مهما تضاءل في الصغرإلى دائرة الضوء ليكون عالمياً، قابلاًلأن يتم التعكزعليه من قبل القوى التي باتت توجه هذه الأحداث، عن طريق”ريمون كونترول”ثورة الميديا، بات يلغي المنزلة بين المنزلتين، ويزجّ بكل الطاقات الموجودة، لكي يكون لها دورها، في ضبط حركة الحياة، وجعلها شأناً شخصياً، بالنسبة إلى المثقف، فلايمكنه القفزعلى أية قضية من حوله، بل وفي العالم، وهوبمثابة”إعادة اعتبار”لدوره المعرفي، بل والنبوئي، كما أنه محاولة لوضعه في لجَّة الحدث، إذبات لزاماً عليه، أن يواكب سيرعجلة الحياة، ليؤسس ركيزة رؤاه، ومنظومة قناعاته التي لابد من الانطلاق منها، لئلا يرتمي في مزالق لايريدها، إما من خلال التطوع بتهميش رسالته، أومن خلال الارتماء في دبق خطل الممارسة، إزاء الأحداث الأكثرأهمية.
وحقيقة،ثمة أسماء ثقافية كبيرة، محلياً، وعربياً، بل وعالمياً، باتت مواقفها مما يجري حولها، تطرح أسئلة كثيرة، انطلاقاً من علاقتها بما يجري، وذلك من خلال درجة استيعابهالتفاصيل الواقع، ولعلَّ تلك المواقف التي تجافي الواقع، تعد الأكثرإثارة للغط، لاسيما إذا كانت قامات هؤلاء المثقفين عالية-إبداعياً- حيث تأتي المفارقة من زاوية التساؤل:” ترى كيف أن هذا الاسم الذي اكتشف أدقَّ أسرارالإبداع، وانصرف إلى صناعة موازينه، إزاء خياري الخيروالشر، مشخِّصاً كل ذلك برؤية، ثاقبة، عميقة، حكيمة، بيدأنه بات إما يتلكأ،أويتيه، أثناء إطلاق الموقف المطلوب، في تقويم أي حدث عظيم، من دون القيام بترجمة واقعية لكل تلك الرؤى النظرية التي أمضى مرحلة طويلة، وهويتبناها، وينطلق منها، وبات-الآن- يتصرف عكسها، الأمرالذي يضعنا في مواجهة حالة فصام، في مثل هذه الحالة..؟.
بوصلة الرؤى الصائبة:
ركزت الدراسات التي تناولت المثقف، على مسألة مهمَة، وهي الدورالذي يلعبه في حياة مجتمعه، وتم وضع معاييرواضحة في هذا المجال، تبين من خلالها، أن المثقف أياً كان موقفه، من أية ظاهرة تجري من حوله، فإنماهويخدم أحد الاتجاهين المتناقضين” الخيرأوالشر” في أيِ مجتمع تتفاوت مصالح أبنائه، ولا تلتقي، ولاغرو هنا، أن نكون أمام هكذا موقفين متناقضين، كل منهما يتأسس انطلاقاً من مصلحة صاحبه، بل ومن زاوية الرؤية التي قد تحدث التباساً، أوضبابية، هنا أو هناك، ما يبعد المثقف عن جادة الصواب، ويجعله يتخذ موقفاً لايناسب مكانته، وعلو قامته، وهوما ينعكس سلباً عليه، أمام أية محاكمة تاريخية، لاسيما في ما إذا كان من شأن موقفه إلحاق الضرربمن حوله، ويتناقض مع المهمات الوطنية الكبرى التي تقع على كاهله، ولا بدَّ له من النهوض بها.
وبدهيٌّ، أن المطلوب من المثقف، في مثل هذه الحالة، لاسيما عندما تكون مصلحته الشخصية، قاب قوسين وأدنى من التهديد، أن يلجأ إلى قراءة المصلحة الأكبر، مجازفاً بمصلحته تلك، من دون أن يتورع عن قولة الحق، ضمن لحظتها، بلا أي إبطاء، لأنه-في حقيقته- يشكل بوصلة لمن حوله، وإن مواقف المثقفين في الظواهرالكبرى هي الأكثرعرضة لوضعها على بساط البحث، حيث لانزال نحاكم مثقفي الثورة الفرنسية-على سبيل المثال- من خلال قربهم أوبعدهم من تبني هاتيك المصالح الكبرى التي أثبت التاريخ صوابيتها، مقابل خطل سواها من مصالح عرضية، ينعكس تبنيها وبالاً على أصحابها.
المثقف خارج ذاته ورسالته:
ثمة تراخ كبير، تعرض له المثقف خلال العقود الأخيرة، وذلك لأسباب كثيرة، تتعلق بطبيعة الاستبداد، حيث تم تغريب المثقف عمن حوله، وفي التالي، تم تغريبه عن جوهررسالته الأولى، وهوماتمَّ تحت حجج وذرائع شتى، منها اللا أبالية، و هي –في الأصل-ترجمة لاغتراب الفنِّ عن المجتمع، وفق بعض النظريات التي سادت بعيدالحرب العالمية الثانية، على وجه الخصوص، وراحت تدعولشرنقة الفنان ضمن جماليات إبداعه، وهوما كان يدعولتناسي أمرعلى جانب كبيرمن الأهمية، وهوأن لا إبداع حقيقياً، مالم يكن له جوهريخدم الإنسان، أولاً وأخيراً، الأمرالذي أكدته تجارب العقود الأخيرة الماضية، على نحو خاص، حيث بتنا نجد، أن تلك النصوص الأيقونية التي أدارت ظهرها لمن ينبغي أن تتوجه إليهم أية خطاب فني إبداعي،لم يعد لهاأي جدوى البتة.
موقف للبيع:
لايمكن للمثقف الذي يصرف خطابه عن مساره الصحيح، في خدمة أهله ومجتمعه، أن يستحوذ اهتمام كل هؤلاء، مهما حاول أن يبدع الذرائع، وهي-في الغالب-تعتمد على البلاغة والخيال والسفسطة، وتتشبث بجزئيات بسيطة، لاشأن لها، يتم تعميمها، بداعي التعمية، وهوسلوك خطير، لاسيما عندما يأتي ذلك على حساب حيوات الناس، أوحرياتهم، أومستقبلهم، وهوماقد يكون لقاء ثمن مجازي، أو واقعي، يقبضه المثقف-إذ قد يكون قبض ريح-بيد أن ذلك يأتي على حساب تاريخ صاحبه، وما أكثرما يفقد بعضهم قيمة أصالة إبداعه، أوموقفه، لقاء هذا الثمن البخس غيرالقابل للصرف البتة…!
الخسارة الأكبر:
وإذا كانت هناك أحداث، تتطلب إبداء موقف المثقف، فذلك يأتي من أنه أمام خيارين فقط، ولابد أن يحدد موقفه، وهوفي التالي موقف مسؤول، يحدد جدوى رؤيته للعالم، وإنه من المعروف، أنه أمام هكذا حالتين متناقضين، فإن خيارالخير، ومصلحة الناس، الغلابة، المظلومين، في وجه ظالميهم، هي التي يجب أن تستأثرباهامام المثقف، وهوهنا، عبرتحديد موقفه أمام خسارة طرف في المعادلة، لابدَّ منه، لكنها خسارة لابد منها، بيدأن هذه الخسارة، تتضاعف، في مالوكان الموقف المتخذ من قبله بين بين، إذ يضطره ذلك لخسارة أطراف المعادلة كافة، وهي الخسارة الأفدح، والأعظم، لأنها أعلى درجات خسارة الذات طرَّاً.
ضميرفي درجة اليقظة القصوى:
إن مثل هذا الأنموذج الثقافي الرفيع الذي باتت الحاجة إليه، الآن، شديدة، كما تمت الإشارة إلى ذلك أعلاه، يستدعي حضوره غياب أي أثرلثنائيتي الفساد والاستبداد، كما أنه يعيد رسم صورة ذلك المثقف الذي طالما كان طليعة شعبه، وتعدآراؤه، مراجع ليس على مستوى الأكاديميات، وبطون الكتب فقط، وإنماهي مراجع في الوقت ذاته للناس البسطاء الذين يستعيدون بأدوارهم، من خلاله الثقة بالمثقف الذي تمت محاولات إقصائه-تاريخياً- عن أداء وظيفته، من خلال دفعه، في حالات كثيرة، إلى تواطؤ ضمني مع منافعه الخاصة، ما يجعلنا نستذكرقولة المفكرالعراقي الراحل هادي العلوي الشهيرة عن المثقف الذي” يأكل جبنه بجبنه”، حيث يعشش هذا الضرب من المثقفين إلى جانب بؤر تلك الثنائية.
ويستطيع المثقف الذي لايكترث بالصوى الطارئة التي توضع في وجه رأيه، ليعلن عنه، بصوت عال، مهما كانت ضريبة ذلك، على حساب لقمته، وحريته الجزئية، بل وحياته، في أحايين كثيرة- وكلها مؤشرات عن ذروة التضحيات- يقدمها المثقف الاستثنائي الذي يسمى ب”ملح الأرض” وهوهنا” ملح الحياة الاجتماعية، بكل جدارة..!
استعادة الوظيفة الأولى:
لايختلف اثنان، أن الحاجة إلى المثقف تزداد يوماً بعد آخر، لكي يواصل أداء الدورالذي أسند إليه، وانقطع عنه، إلى فترة زمانية طويلة، إذبات لامناص من ذلك، أمام تفاقم أوضاع أهله من حوله، وصارمن اللزام عليه، أن يستعيد الدورالرئيس المسندإليه، كي يلعب خطابه أكثرمن وظيفة، وفي أكثرمن جهة، ليتجاوز بذلك اتخاذ الموقف الذي غدا من ألفباء هذه الوظيفة، وكيميائها، ليبدأ بتفكيك خيوط مشهد اللحظة، المتشابكة، من جهة، إلى جانب الإسهام في تقديم رؤيته المستقبلية، مع سواه من المعنيين، سواء أكان ذلك، على نحوفردي، أو ضمن فرق، وورش، ومراكزدراسات خاصة، ليعود بذلك إلى موقعه الطبيعي، ويمارس خطابه دورالرقابة على الحياة العامة، من أجل ضمان سيرها في الاتجاه الصحيح….!
وهكذا، فإننا لنجد-على هذا النحو-أن وظيفة المثقف، في جوهرها، ليست بسيطة، كما أريدلها إلى وقت طويل، تماشياً مع روح آلة الاستبداد التي تسعى لتكريس أنموذج المثقف الهشِّ، الخانع، عديم الملامح، الذي يكون على طرفي نقيض ومصالح وطنه ومواطنه، بل إن هذه الوظيفة، أعمق من حدود الممارسة التقليدية التي تمت إلى وقت طويل، فهي مركبة، تتفاعل، وفق شكلها الصائب، مع اللحظة الزمانية، كي تؤثروتتأثر، في آن، ومن هنا، فإن عملية استعادة المثقف لوظيفته الفعلية، إنما تعني، استعادة نبض الحياة، كي تسلك في مدارجها الطبيعية، دونما أي قسر أوعسف، يشوهان جمالياتها التي لا تحصى.
خطّ فاصل إلى اللانهاية:
إذا كانت هناك مايمكن وسمه، ب” إعادة توزيع المهمات” للمثقف، على ضوء ما سبق، وتم تناوله، فإن هذا لايدعو-بأي حال-إلى خلط الحدود بين مفردات الوظيفة الثقافية، لأن اتخاذ الموقف التاريخي الصائب، يموقع المثقف، ويعفيه من تطويع خطابه الإبداعي ليكون صورة طبق الأصل، عن الخطاب السياسي، لأن لكل من هذين الخطابين لغته، ووسائله، وأدواته، إذ لايطلب من الروائي-على سبيل المثال-أن يجازف بإبداعه، لصالح خطاب آخر، حتى يمنح صكوك الغفران، ويصل إلى مستوى الخطاب السياسي، بل إن وضوح الرؤية إليه، وتناوله للموقف، من منظورإبداعي، يجعله محققاً لماهومرجومنه، وقد يتحقق هذا، من خلال إبداء موقفه العام، وهويميزتفاصيل المشهد، من حوله، بدقة عالية، في إطارثقافي،لايأتي على حساب جدوى خطابه الإبداعي، مادام أن لكل من الثقافي، والسياسي، أدواتهما الخاصة، في معالجة أية ظاهرة، وإن كانا سيلتقيان، كل بطريقته، لأن لغة الشاعرفي نبذ وإدانة الجوع، والحرب، والظلم، تتأسس على نحومختلف، مما يفعله السياسي، عبرمقال عابر، أوتصريح، أوبيان، أوخطبة، وهوأمرمهم، لابدمن معرفته لدى المثقف، حتى يحقق-في التالي-التوازن الفني والجمالي لخطابه، لأنه جدّ مهم، في ماإذا اقترن بالرؤية الصائبة للحياة…..!