المثقف والخواتيم المرّة/ صبحي حديدي
ضمن سلسلة متميزة بعنوان «المكتبة الدولية للدراسات الثقافية»، تنشرها من لندن دار I. B. Tauris، صدر مؤخراً عمل لافت بعنوان «سرديات قبرص: أدب الرحلة الحديث والمواجهات الثقافية منذ لورنس داريل»؛ بتوقيع جيم بومان، أستاذ البلاغة في كلية سان جون فيشر، روشستر، والمحرر لأبحاث عديدة حول نصوص الرحلة، في الشرق الأوسط بصفة خاصة. والكتاب يتفحص «المسارح الثقافية» التي شاء كتّاب الرحلة الغربيون إنشاءها في قبرص، أثناء إقاماتهم لأغراض مختلفة؛ وكم خضعت تلك المسارح لأنماط مختلفة في الانتقاء والإقحام والمرونة والجمود. وبذلك فإنّ العمل يستحق قراءة أخرى، مفصلة، لا تتيحها هذه العجالة؛ تليق بأطروحاته الإشكالية حول الأبعاد الأعمق وراء تدوين مشاهدات وانطباعات ثقافية أوّلاً، قبل أن تكون سياحية وصفية أو صحافية توثيقية.
موضوع هذه الوقفة، مع ذلك، ينحصر في الفصل الخامس من الكتاب، الذي يتناول سردية قبرصية صدرت سنة 1997، بعنوان «رهينة التاريخ: قبرص من العثمانيين إلى كيسنجر»، للكاتب والصحافي الراحل كريستوفر هتشنز. والعمل هذا، بعد تمحيص معمق لمسارات الأزمة القبرصية، ينتهي إلى الخلاصة التالية: أربع قوى كبرى، إقليمية ودولية، هي تركيا واليونان وبريطانيا والولايات المتحدة؛ تكاتفت، رغم التناقض الظاهري في مواقفها إزاء أطراف النزاع، لكي تحيل نزاعاً محلياً إلى كارثة كبرى أسفرت عن تقسيم البلد. ويستخلص هتشنز، بنفاذ نقدي بارع، كيف أنّ مواقف هذه القوى كانت تنطلق من اعتبارات ثقافية، دينية أساساً؛ ولم تكن تلجأ إلى تحليل وقائع الأرض، بقدر ما كانت تستنسخ مقولات الاستشراق.
ورغم أنّ بومان يتفادى التطرق إلى التحولات الجذرية التي طرأت على تفكير هتشنز في السنوات الأخيرة، قبل رحيله؛ إلا أنّ هذا الفصل يُعدّ شهادة بليغة، حتى إذا كانت غير مباشرة، على أنّ صاحب السردية القبرصية، نفسه، بات على منأى بعيد عن روحيتها الفكرية والسياسية والأخلاقية، وحتى تلك المنهجية. وبعد أن كان في عداد أبرز المتحمسين لآراء إدوارد سعيد، فإنّ إحدى آخر مقالاته كانت مراجعة إيجابية لكتاب رديء بعنوان «المعرفة الخطرة»، يكرّسه روبرت إروين للنيل من «الاستشراق»، ومن سعيد شخصياً. مراجعة أخرى، لا تقلّ إيجابية وتعاطفاً، تناولت كتاباً أقلّ رداءة وسطحية، هو «كافرة»، للصومالية ـ الهولندية أعيان حرسي علي!
ولم يكن غريباً أنّ منحنى الانحدار بدأ مع تأييد هتشنز للرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، في قرار غزو العراق. وبعد قرابة عقدين من الكتابة المتواصلة في مجلة The Nation، أعرق دوريات اليسار الأمريكي والمنبر البارز الذي احتضن كبرى قضايا الانشقاق الفكرية والسياسية في الولايات المتحدة؛ أعلن هتشنز أنه سيتوقف: «حين بدأتُ العمل في المجلة، قبل أكثر من عقدين، وصف [ناشر المطبوعة] فكتور نافاسكي المجلة بأنها حقل نقاش بين الليبراليين والراديكاليين، وكان هذا أمراً طيباً في تقديري. لكنني، في الأسابيع القليلة الماضية، أدركت أنّ المجلة نفسها تأخذ مواقف منحازة في هذا النقاش، وباتت صوتاً وقاعة صدى لأولئك الذين يؤمنون بصدق أنّ جون أشكروفت يشكّل تهديداً أخطر من أسامة بن لادن».
الحكاية، مع ذلك، تجاوزت هذا الخلاف، إذْ ردّ هتشنز تفجيرات 11/9 إلى فتوى الإمام الخميني ضدّ سلمان رشدي؛ واعتبر أنّ حرب بوش «مناهضة للكهنوت»، رغم أنّ الذي يقودها مسيحي؛ ومناهضوه هم من نوع إذا عثر على أفعى خبيثة في سرير طفله، فإنّ أوّل ما يفعله هو الاتصال بجمعية الرفق بالحيوان. في الآن ذاته، أعلن هتشنز أنه لا يأمل خيراً من بوش في «معركة المجتمع المدني»، التي «تستعر في العالم الإسلامي»، لأنّ «الحمقى وحدهم هم الذين يأمنون على تسليمه هذه المهمة! وأمّا في الملفّ الفلسطيني، فإنّ الصديق الصدوق (السابق!) للقضية الفلسطينية، لم يعد يجد غضاضة في استخدام تعبير «ما يُسمّى الأراضي المحتلة»؛ وبات يقبل وضع الفلسطينيين أمام خيارين: إمّا التصويت ضدّ عرفات، أو العيش إلى الأبد في ظلّ الاحتلال.
ولأنّ الحصيلة متضاربة هكذا، وختامها مرّ كالليمون الذي تذوّقه داريل في سرديته القبرصية، فإنّ المرء يقرأ الفصل الخامس من كتاب بومان بمزيج من المرارة والأسى: إزاء بدايات، ثمّ نهايات، مثقف كان ذات يوم عقلاً لامعاً دائم التغريد خارج السرب، وناقداً ثقافياً دائب الانشقاق عن المألوف، منحازاً إلى القضايا الخاسرة. لكنه، في كلّ حال، لم يكن الأوّل على هذه الشاكلة؛ ولن يكون الأخير، كما علّمنا التاريخ.
القدس العربي