صفحات الرأي

المثقف يستقل عن السلطة وليس عن الدولة/ د. عبد الاله بلقزيز ()

 

 

هل حقاً، على المثقف ـ كي يكون جديراً بحمل صفة المثقف ـ أن يحفظ استقلاليته في وجه السلطة؟ وهل ينبغي لمفعول تلك الاستقلالية ان يمتد ـ ليصل العلاقة بالأحزاب والمنظمات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني كما يدعو الى ذلك كثيرون؟

أما ان يستقل عن السلطة السياسية القائمة ـ أياً تكن: تقدمية أو محافظة ـ فذلك شرط لأن يكون مثقفاً. لكن العلاقة بالدولة هي غير العلاقة بالسلطة، كما نعرف؛ لأن الدولة هي الكيان الأعلى والتمثيلي للأمة، والاستقلال عنها مستحيل وإن تخيل المرء امكان ذلك لتخللها نسيج حياته وهو ـ اي الاستقلال في افضل حالاته استقلال نسبي (Automomie relative)، على اعتبار ان المثقفين ـ بمعزل عن وضعهم الاعتباري كحملة لرأسمال ثقافي ـ مواطنون في المقام الأول، تشدهم الى الدولة علاقات المواطنة والولاء: أياً كان موقفهم من السلطة السياسية فيها. فشدد على هذه المسألة لأن عدداً من المثقفين المدافعين ـ بحق ـ عن وجوب استقلالية المثقف عن السلطة انما يقصدون بالسلطة الدولة، وهذا يأخذ موقفهم الى ضفاف تطرفية تجافي واقعية علاقتهم الكيانية بالدولة، ومعطياتها اليومية. ومن مثالات ذلك ان اكثر هؤلاء الداعين الى ذلك اساتذة جامعات؛ والجامعات أجهزة تابعة للدولة!

سنعود، في ما بعد، الى مسألة استقلالية المثقف عن السلطة ووجاهة القول بها، لتناول ـ سريعاً ـ الدعوة الى شمول هذه الاستقلالية مؤسسات المجتمع الأخرى، مثل الأحزاب والنقابات والمنظمات المدنية. هل حقاً تتوقف صفة المثقف على تحقيق هذا الاستغلال عن تلك المؤسسات المجتمعية؟

اذا تركنا، جانباً، مواقف بعض المثقفين الفوضويين، في بلدان الغرب، الداعية الى مقاطعة النقابات ـ بعد الأحزاب ـ والمنظمات الشعبية بدعوى تزويرها التمثيلية، وقيامها على مبدأ التمثيلية غير المباشرة (الانتخابية) بدلاً من المباشرة (عبر مجالس التسيير الذاتي)، نلحظ ان اكثر المثقفين الداعين الى ذلك الاستقلال.

(ماركيوز، سارتر، فوكو، بورديو، دولز، ديريدا، هابرماس، تشومسكي).. انما يشددون، حصراً، على نوع محدد من تلك المؤسسات الاجتماعية هي المؤسسات الحزبية. لن ندخل، طويلاً، في جدل فكري مع اطروحة الفيلسوف الفرنسي لوي التوسير حول الحزب باعتباره جهازاً من أجهزة الدولة الايديولوجية؛ كما لن نسارع الى الدفاع عن مفهوم آخر للحزب (من قبيل القول انه مؤسسة من مؤسسات المجتمع)، ولكن سننصرف ـ حصراً ـ إلى إبداء ملاحظتين نقديتين على تخصيص المؤسسة الحزبية، من دون سواها من المؤسسات كالنقابات والمنظمات المدنية، بالنقد وبالدعوة الى استقلالية المثقف عنها.

تتعلق الملاحظة الأولى بالمناخ التاريخي والسياسي الذي ازدهرت فيه الدعوة الى استقلال المثقف عن الحزب وسلطة الحزب؛ انه مناخ انتفاضة ايار/مايو 1968 في فرنسا واوروبا. فاجأت حركات الطلاب والشباب اليسار الشيوعي في هذه البلدان، وسرعان ما انضم اليها المثقفون ـ حتى من كان منضوياً منهم في احزاب اليسار ـ آملين في ان تكون سبيلاً آخر الى الثورة الاجتماعية غير السبيل الذي تكرس الايمان به ادبيات تلك الأحزاب. كانت الانتفاضة، في عرف اكثر مثقفي اوروبا الراديكاليين، اعلاناً رسمياً لنهاية المؤسسة الحزبية اليسارية (واليمينية) وافلاسا تاريخياً لها، وايذاناً بالطلاق النهائي للمثقفين معها. ومن ذلك الحين، لم يعد من يقينية جديرة بالمدافعة، عند اغلب المثقفين، سوى يقينية الاستقلال الثقافي. ولم يشذ عن ذلك الا القليلون ممن ظلوا يعملون في منظمات اليسار الراديكالي: التروتسكية والماوية ومنظمات العنف الثوري وأخيراً احزاب البيئة في المانيا وفرنسا وغيرهما.

وتتعلق الملاحظة الثانية بالأثر الفكري الكبير الذي كان لنصوص بعينها في إنضاج فكرة وجوب استقلالية المثقفين عن الأحزاب. من ذلك تأثير كتابات هربرت ماركيوز الفيلسوف الألماني المهاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية، وكتابات جان بول سارتر بشأن الثقافة والمثقفين وفكرة الالتزام، ناهيك بأطروحة لوي ألتوسير بشأن أجهزة الدولة الإيديولوجية؛ التي بدا كما لو أنها باتت في مقام اليقينية التي لا سبيل إلى زحزحتها. والحق أن هذه الكتابات ما كان لها أن تمارس كل ذلك التأثير الذي مارسته، في وعي مثقفي 68، لولا حدوث الانتفاضة الكبير الذي أحدث الشرخ بينهم و(بين) الحزبية.

حين ندرك السياق الذي ازدهرت فيه أطروحة الانفصال بين الثقافة والمؤسسة الحزبية، يرتفع الإبهام عن «النازلة». ونحن، في هذا المقام، لا ندحض أطروحة وجوب استقلال المثقف عن الحزب فهي ليست فاسدة تماماً وإنما نحاول أن نفسر لماذا نشأت، فجأة، في وعي مثقفين يساريين درجوا على الاعتقاد، طويلاً، بأن على الفكر أن يلتحم بالممارسة من اجل تحقيق التغيير. سنرجئ الرأي في مدى صوابية هذه الأطروحة ونقول: إن المأخذ عليها هو مصادرتها حقاً من حقوق المثقفين، بما هم مواطنون، هو الحق في المشاركة السياسية من خلال الانتساب إلى أداة من أدواتها هي الحزب أو التنظيم السياسي. وهي مصادرة غير مشروعة وتجافي حقوق المواطنة. وعندي أن حرمان المؤسسات الحزبية من مساهمة المثقفين نظير حرمان الدولة منها، وهو لا يستقيم مع احتجاج المثقفين على تهميشهم من قِبَل الدولة والأحزاب!

قلنا أن فكرة استقلالية المثقف عن السلطة (لا عن الدولة) مشروعة، وإن في الدعوة إليها في العلاقة بالحزب ما يشي بأنها ليست فاسدة تماماً. وعلينا، هنا، أن نبرّر رأينا في ما نذهب إليه مذهب التقاطع النسبي مع الأطروحة الفلسفية الفرنسية. تقوم شرعية الدعوة إلى استقلال المثقفين على ركنين مكينين:

أولهما أن ارتباط المثقف بالسلطة يحوّله حكماً إلى «مثقف» تبريري، لا وظيفة له سوى التماس الذرائع لخياراتها وسياساتها؛ وذلك، بالذات، ما يفعله كثير منهم بدعوى وجوب التزام الواقعية. والحق أن المقصود بتلك إنما هو الأمر الواقع القائم. في كل الأحوال، يتخلى المثقفون عن موقعهم الثقافي حين يوالون سلطة ما، ويتحولون إلى جزء من نسيجها. يكفّون، لحظتئذ، عن أن يكونوا مثقفين، ذوي آراء حرة، ليصبحوا مثقفين يقدمون سخرة للسلطة، أو يؤجرون ألسنتهم لخدمتها.

وثانيهما أن من مقتضيات الثقافة النقد، ولا ثقافة من دون نقد بوصفه سلطة معرفية على الأشياء: على الأفكار واليقينيات البائدة، وعلى العلاقات والمؤسسات. لا يصح شيء في الوعي من دون عرضه على المساءلة النقدية. إذا كان ذلك مما يجوز في الأفكار الكبرى، فكيف لا يجوز تجاه المؤسسات السياسية: الرسمية والشعبية. حين يرتبط المثقفون بالمؤسسة سلطة أو حزباً يُضحّون بأثمن رأسمال ثقافي يملكون: حرية الرأي، وحرية النقد. قد تدّعي المؤسسة أنها تحفظ لهم الحق في ممارسة الحرية الفكرية وحق النقد، ولكنها حتى أن وفّرت شيئاً زهيداً من ذلك تطالبهم بالالتزام بما تقرره المؤسسة، وتصطدم بذلك الحق الذي تعترف لهم به نظرياً اصطداماً عملياً.

يؤدينا التحليل السابق إلى جواب استنتاجي عن سؤال الاستقلالية مبناه على الفكرة الآتية: ليست استقلالية المثقف انفصالاً عن الدولة والمجتمع، ولا انشقاقاً ولا انسحاباً من الشأن العام، كما يطيب لكثيرين أن يصوّروا موقف الداعين إلى استقلالية الثقافي عن السياسي؛ وإنما منطلق الدعوة إلى استقلاليته هو التسليم بأن الثقافة في حد ذاتها سلطة، وينبغي النظر إليها والتصرّف معها بوصفها سلطة. لم يعد ممكناً اختزال مفهوم السلطة في السلطة السياسية، منذ أن سدّدت المعرفة المعاصرة ضربة نظرية لهذا التصوّر الاختزالي للسلطة، فشددت على أن السلطة ليست ممركزة في نصاب اجتماعي واحد، وإنما هي موزعة. والمثقفون أول من عليهم أن ينتزعوا الاعتراف بالسلطة الثقافية، وأن يحموها من المصادرة والاستلحاق: من دعوات غيرهم… ومن دعواتهم هم أنفسهم.

() أكاديمي وباحث من المغرب

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى