“المجاهدون” بين الأيديولوجية والواقع.. من أفغانستان إلى داعش/ سلامة كيلة
من يتجاهل الصيرورة التاريخية، ويتعامل مع الأحداث كنتاج راهن فقط، لن يصل إلى نتيجة علمية. هذا، مثلاً، ما يظهر في التعامل مع داعش، حيث بدا، وكأنها ظهرت فجأة من دون تاريخ، وباتت تشكّل كل الخطر الذي تشير إليه وسائل الإعلام، وزعماء الدول، وتحشد الحشود لمواجهتها، في سيناريو، لا يختلف عما حدث مع تنظيم القاعدة.
ليست داعش وليدة اليوم، بل هي استمرار لـ”الجهاد” الأفغاني. تشكلت في صيرورة التحولات التي حدثت في السنوات التالية لهزيمة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان. من “المجاهدين” الذين قاتلوا في أفغانستان، ودعموا حركة طالبان في الصراع مع الكتائب الأفغانية الأخرى، ومن ثم، فرّوا عبر إيران إلى العراق. وإذا كان أبو مصعب الزرقاوي قد مرّ عبر إيران، وصولاً إلى العراق، نهاية سنة 2004 مع مجموعة من “مقاتليه” الذين كان قد شكّل منهم “كتائب التوحيد والجهاد”، فقد انخرط في تنظيم القاعدة بعد إذ، وأسس “تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين”، وبالتالي، أخذ يستقبل “المجاهدين” انطلاقاً من ذلك.
لهذا، ليس ممكناً أن نفهم وضع داعش، من دون اعتبار أنها استمرار لتنظيم القاعدة، وهو أمر يفرض البحث في تشكيل هؤلاء “المجاهدين”، وفي كيفية تبلور هذه الظاهرة التي باتت “الخطر الأكبر” على الولايات المتحدة، كما تقول الأخيرة. طبعاً، يمكن دراسة سياق تبلور “الأفكار” التي تطرحها، ونشير إلى الفتاوى التي تستند إليها، وربما إلى “المرجعيات” الفقهية التي حكمت، وتحكم، مسيرة هؤلاء. لكن، سيبدو ذلك كله ثانوياً، في سياق البحث في تشكّل التنظيم، وفي الدور الذي لعبة ويلعبه، قبل داعش ومعها. فمثلاً مَنْ قرَّر فتح صراع ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، بعد دخول الأخير إليها باسم الإسلام، هو الولايات المتحدة، بالتعاون مع السعودية وباكستان بالأساس. وتأسيساً على ذلك، صدرت فتوى عبدالله عزام التي تقول بـ”تحالف الإيمان ضد الإلحاد”، والتي جرى تعميمها على نشاط “الإخوان المسلمين” في كل المنطقة (بما في ذلك فلسطين). بالتالي، لا بد من الإجابة على سؤال: هل الفتوى هي التي تحدد السياسة، أم على العكس، السياسة هي التي تُنتج الفتوى؟
لا شك في أن كثراً من “الشباب المجاهد” هرعوا إلى أفغانستان، وكذلك لعبت تنظيمات مثل “الإخوان المسلمين” و”السلفيين” دوراً في “الحشد”. ولكن، أيضاً، كانت أجهزة المخابرات هي التي تسهّل وتسهم في الحشد، ومن ثم تدرّب وتموّل وتسلح. وهذه التوليفة هي التي شكّلت ظاهرة “المجاهدين”، وليس البنى المحلية التي أنتجت هؤلاء، والتي لا تستطيع أن تتجاوز محليتها. لا من حيث الفتوى، ولا من حيث التدريب والتمويل والإعلام، والسياسة. فتلك البيئات المنتجة لا تعرف السياسة، وبالتالي، لا تستطيع تحديد سياق الحشد، ولا الهدف. لهذا، تهرع إلى الأماكن التي يركز عليها الإعلام، أو يفتي فيها “أمير” ما. لكن، سنلاحظ أن كل الفتاوى كانت تصبّ في خدمة سياسة أخرى، وينتهي الحشد حالما تنتهي الحاجة إليه.
إن جل “المجاهدين” آتون من بيئات مهمشة ومفقرة، ويمكن أن نقول إنها “خارج الحضارة”، ومن يدرس الأصول الاجتماعية لهؤلاء، يلمس هذا الأمر جيداً. وهي بيئاتٌ مهمشةٌ كذلك من حيث التعليم، والتواصل، والمقدرة. وهي بيئاتٌ يمكن أن تنتج من يتمرد في المنطقة ذاتها، لكنها لا تستطيع أن تنتج “دوراً عالمياً” وتقنيات عالية وحشداً دقيقاً وتمويلاً هائلاً، وخبرة عسكرية، والحصول على السلاح. بالتالي، هي بيئات تنتج من يمكن أن يستغل باسم الدين، أو يتوهم بأنه يقوم بـ”الجهاد” في سبيل الجنة، أو من أجل إقامة “دولة الخلافة”، أو “الأمر والنهي” لتحقيق “الدين الصحيح”. إذن، كيف يمكن لهذه البيئة التي نوصّفها أن تنتج هذه القدرة والتمويل والخبرة؟ بمعنى أن هذه بيئة قابلة، لكنها غير قادرة بذاتها على إنتاج الأشكال التي نراها من التنظيمات “الجهادية”، ولا إنتاج الفتاوى و”الوعي” الأصولي الذي تمارسه.
وإذا انطلقنا من إصدار الفتاوى التي تنحكم لمنظور فقهي، يقوم على القياس البسيط، سنلمس أن هذا المنظور، لكونه كذلك، هو خارج السياسة، لأنه أدنى من حيث المقدرة المعرفية. فهو يقيس وفق منظور شكلي على مسألة ما في النص القرآني، أو على ممارسةٍ جرت في صدر الإسلام، أو يعتمد على فتاوى قديمة، خرجت في مرحلة الانهيار والتفكك، وعبّرت عنه (ابن تيمية وابن قيم الجوزية خصوصاً، ثم محمد ابن عبد الوهاب). والذي يقيس لا يحيط لا بالنص ولا بالفقه ولا بالسيرة ولا بالتاريخ، ولا بمبدأ القياس ذاته. وهذه سمة كل “المراجع” التي تتحكم بمسيرة “المجاهدين”. ولأن هذا المنظور أدنى من السياسي معرفياً، يستدعي أن تلحظ الفارق بين هذا والفعل السياسي الذي قام به هؤلاء “المجاهدون”. لماذا ذهبوا إلى أفغانستان، في لحظة تبلور سياسة أميركية، تهدف إلى إنهاك الاتحاد السوفييتي؟ ولماذا قاموا بعملية البرجين في لحظة استعداد أميركي لاحتلال أفغانستان والعراق؟ وما الدور الذي لعبه تنظيم قاعدة الجهاد، ثم الدولة الإسلامية في العراق؟ وأخيراً، الدور الذي خيض في سورية من عناصر، كانت معتقلة في سجون النظام السوري، ثم من تدخل تنظيم دولة العراق الذي دعمه نوري المالكي وإيران؟ والآن، الدور الجديد الذي يهيئ لتدخل أميركي؟
كذلك يمكن أن نُظهر المفارقة بين سيادة المنطق الفقهي، في أكثر حالاته سذاجة، وهذا التعقيد في الإخراج الإعلامي للفيديوهات التي تُظهر عنف تنظيم داعش وقوته، الإخراج الذي بات يشار إلى أنه هوليوودي. هذا حدث قبيل الحرب على أفغانستان بالفيديوهات التي كان يصدرها تنظيم القاعدة، وما يظهر، الآن، من تنظيم داعش.
هناك فرق معرفي بين “وعي المجاهدين” الذي هو نتاج بيئتهم والدور والصورة اللذين يخرجان عنهم. هذا أمر يستحق البحث بدل تكرار التركيز على “الخلافات الفقهية”، وتطور التنظيم كنتيجة لها، أي بالتركيز على الأيديولوجي، بعيداً عن وعي الظاهرة كظاهرة واقعية. لهذا، يجب لمس أساس تشكلها لفهم طبيعتها، وهنا، لا بد من أن نشير إلى أن “وضعين”، هما ما أنتج الظاهرة، الأول هو البيئات المهمشة والمفقرة (المهمشة حضارياً) التي تدفع إلى إنتاج “مجاهدين” (وكانت تدفع إلى إنتاج مناضلين شيوعيين في سنوات سابقة). والثاني، أجهزة أمنية، كانت تعمل على تأسيس “شركات أمنية خاصة”، أو “فرق موت” (كما كانت تسمى في أميركا اللاتينية)، هدفها “خلق المبررات”، لتدخل أميركي، أو لنشر الفوضى والقتل في بيئة معادية، أو لإضعاف وتدمير قوى ثورية، تهدد بإسقاط نظم عميلة أو تابعة. وهذه تجارب باتت مكشوفةً، كما أظن، ربما فقط إعطاؤها اسماً إسلامياً هو الذي أربك، وفتح المجال للدفاع عنها، أو خلطها بالدين.
ما من شك في أن هناك بيئات تنتج فئات تنخرط في هذا المسار، وهذا ما يفرض البحث عن جذور التخلف القائم، والأسباب التي أبقت مناطق مهمشة “حضارياً” ومفقرة، والأسباب التي تسمح بوجود “فقهاء” يخدمون سياسات، ونظم تريد تعميم هذا النمط من “التدين”، وتعطي مثالاً على ذلك، كما المطاوعة في السعودية التي هي أساس تعميم الوهابية بكل نسخاتها، وصولاً إلى داعش، وتدعم مالياً بسخاء هذه الاتجاهات. لكن، هذا جزء من تكوينٍ، تعمل عليه أطراف متعددة، مستغلة التخلف والفقر والتهميش الحضاري، التي هي سببه أصلاً. فهي تغذي تضخم هوامش مخلّفة من أجل تدمير ممكنات التطور، وتسهيل السيطرة الإمبريالية. الأمر، هنا، ليس عفوياً كما يبدو، بل هو نتاج فعل واعٍ من أطراف تعرف كيف توظف التخلف لخدمة سيطرتها، وتبرير هذه السيطرة.
ظاهرة المجاهدين متعددة الأطراف والمستويات، ولا بد من أن تبحث من هذا المنظور. لكن المستوى الأساسي فيها هو الطرف المخطط والممسك بالقدرة والتأثير، والذي يعرف ماذا يريد منها، وليس هؤلاء البسطاء الذين يحلم بعضهم بالجنة، تخلصاً من حالة كبتٍ جنسي مريع، أو تخلصاً من التهميش، لكي يأخذ حيّز الصورة، أو متوهم بإقامة “الدين في مالطة”، أو من يعتقد أنه سيرتقي طبقياً حين يدخل في هذا الطريق. كل هؤلاء يسهل توظيفهم في مسار آخر، غير أوهامهم، ليصبحوا المادة التي تسمح بتنفيذ تكتيك معيّن لهذه الدولة، أو تلك، خصوصاً هنا أميركا، وأيضاً السعودية وإيران والنظام السوري، وغيرهم كثر.
فطبيعة هؤلاء “المجاهدين” البسيطة تسمح بأن يخدموا مشاريع لا يعرفون عنها شيئاً، ويوضعوا في سياقاتٍ لا يفهمونها. السذاجة، وحدها، هي التي توهمت بدور هؤلاء، منذ “غزوة مانهاتن” إلى “قتال الأميركان” في العراق، إلى دعم “إسقاط النظام” في سورية. متجاهلة أساس الظاهرة ومحركيها، والدور الفعلي الذي تبرر الفتاوى الممنوحة لهؤلاء ممارساتهم، من “قتال الروافض والمارقين والكفرة” إلى تنفيذ “شرع الله” إلى أسبقية قتال المرتد على الكافر، وما إلى ذلك من فتاوى، تخدم في الواقع سياسة أخرى (مثل افتعال صراع طائفي وتدمير المقاومة في العراق، أو تخريب مواقع الثورة وقتل كادراتها في سورية). فالفتاوى التي تبرر الممارسة هي مضادة للشعب وللثورة والمقاومة، وتخدم أجندات أخرى. وذلك كله يمكن أن يلقي الضوء على قدراتها اللوجستية والمالية والإعلامية، وليس بساطة “المجاهدين” التي لم تتح لهم ظروف القهر أن يدخلوا الحضارة.
العربي الجديد