المجتمع المدني في سورية ودوره في التغيير الديمقراطي
الدكتور حازم نهار
مقدمة:
تبدأ عادة أي مقاربة من قبل المثقفين السوريين (والعرب عموماً) لمفهوم المجتمع المدني ودوره بالحديث عما يثيره هذا المفهوم من إشكاليات نظرية والتباسات وصعوبات معرفية، ثم تسير في اتجاه استعراض تاريخية المفهوم في أوروبا وعصر الأنوار، وتكاد لا تترك اسماً لمثقف أو فيلسوف إلا وتحشره في هذا الإطار، لتنتهي المقاربة في المحصلة إلى لاشيء، أو بالأحرى إلى نتائج غير واضحة أو غير مفيدة في السياق العملي.
لا شك أن هناك فائدة لمعرفة تاريخية المفهوم وتحديد عناصره ودلالاته المعرفية والأيديولوجية، فهي تحسن من ثقافتنا ومعرفتنا بالآخر، وترفع من إحساسنا بنقص مفاهيمنا وثقافتنا ومعرفتنا. لكن الانتقال من اجترار المفاهيم والأفكار نحو خلقها وابتكارها محلياً والاستفادة منها في الواقع العملي، يقتضي مقاربة من نوع آخر. تنطلق من النظرية والأفكار من جهة أولى، وتنظر إلى الواقع العياني ومدى قابليته لتقبل ما هو جديد، أو العقبات التي يطرحها من جهة ثانية، ولتصل في المآل إلى إبراز عدد من الأفكار المحددة التي تشكل بوصلة لاستنباط استراتيجيات وآليات عمل حقيقية.
الإبقاء على معادلة “فكر – واقع” في الذهن لدى أي مقاربة من هذا النوع يجنبنا الوقوع في فخ التحول إلى عبيد للنصوص المقدسة، ويساعدنا في الخروج من شرك التجريب الدائم وإنتاج الأخطاء إلى ما لا نهاية.
ثمة ضرورة للعمل على المستوى المفاهيمي لتأصيل وتبيئة المفهوم من خلال إعادة صياغته وتحديد مدلولاته النظرية والعملية، وهو الأمر الذي لا بد أن يمر بمحاولة استكشافه والعودة إلى الفضاء الزماني/ المكاني الذي شهد ولادته، ورصد الملامح العامة للتطورات والتحولات والتمفصلات والانقطاعات في الدلالة والمعنى التي طرأت عليه منذ ذلك الوقت عبر سيرورته المتقطعة، وهذا ضرورة بالقدر الذي يزودنا بالقدرة على الوصول لاستخلاصات عامة تفيدنا في الاقتراب من الواقع وتفهمه فهماً نقدياً.
التناول الفكري ضروري، لأن كل عمل بالضرورة يتضمن الفكر، وكل خطأ في الممارسة يستدعي على الأقل مراجعة فكرية، وضروري أيضاً عندما نلاحظ أن مفهوم المجتمع المدني يتمتع بوضوح شديد في أذهان المواطنين في أوروبا وأمريكا، ولكنه يقابل بالغموض في ذهن المثقف العربي، فما بالنا بالإنسان العادي.
ثمة ضرورة أيضاً لقراءة الواقع السوري وماضيه القريب، وبحث الإشكاليات التي يثيرها مفهوم المجتمع المدني وضرورة تحديد وتحليل العقبات والعوائق المعرفية والأيديولوجية، وعلى المستويين النظري والاجتماعي، التي تحول دون تحوله إلى جزء عضوي من ثقافتنا، وإلى واقع معاش.
ثمة ضرورة أخيرة هي الاستفادة من القراءة النظرية المعرفية للمفهوم ودلالاته، ومن قراءة الواقع السوري في بعديه السياسي والاجتماعي على الأخص، في تحديد الاستراتيجيات وآليات العمل المناسبة. إدراك هذا الترابط والتجادل بين الفكر والواقع واسترتيجيات العمل أساسي لكل مقاربة جادة في التعامل مع مفهوم المجتمع المدني ودوره ووظائفه.
في مفهوم المجتمع المدني ودلالاته
1- الدولة الوطنية والمجتمع المدني:
نشأت الدولة السياسية الحديثة (أو الدولة الوطنية / القومية) بالتلازم مع ظاهرة المجتمع المدني في كنف الثورة البرجوازية التي قامت في أوروبا كتتويج لسيرورة عصر النهضة والإصلاح والتنوير. من هنا ارتبط مفهوم الدولة الحديثة منذ نشوئه بمفهوم المجتمع المدني في المستوى الاجتماعي، والذي يعتبر التجسيد العياني للأمة، أو الحيز العملي لتعبير ثقافي هو الأمة. وهذا يعني أن الدولة الحديثة لا تلتقي إلا مع مفهوم المواطنين الأحرار والمجتمع المدني، في حين أن الدولة ما قبل السياسية تلتقي مع مفاهيم الرعايا والمجتمع التقليدي.
ثمة إذاً تلازم منطقي وتاريخي بين الدولة الوطنية والمجتمع المدني، ولا يمكن بالتالي تناول المجتمع المدني بمعزل عن مفهوم الدولة الحديثة، فهما طرفان جدليان لا يقوم ولا يستقيم أي منهما إلا بالآخر. وبمعنى ثانٍ هناك اتصال وانفصال في آنٍ معا بين الدولة والمجتمع المدني، فاستقلالية المجتمع المدني عن الدولة هي استقلالية نسبية وليست مطلقة وميكانيكية (1). الدولة السياسية، باعتبارها أهم معالم الحداثة في مستواها السياسي، هي شكل الوجود السياسي للمجتمع، أو هي التعبير القانوني / الحقوقي للأمة بمعناها الحديث الذي يحيل على المجتمع المدني. لذلك يرتبط المجتمع المدني بالمجتمع السياسي (الدولة) ارتباط المضمون بالشكل والحرية بالقانون، على اعتبار أن المجتمع المدني هو فضاء الحرية والدولة هي مملكة القانون. المجتمع المدني مشروط إذاً بالدولة الوطنية، تماماً كما الحرية مشروطة بالقانون، وبتعبير أوضح لا وجود للمجتمع المدني دون وجود دولة وطنية، إذ لا حرية دون سيادة القانون(2).
المجتمع المدني، سواء في حقل النظرية الفلسفية، أو في حقل التاريخ الاجتماعي الواقعي، يتضمن التعدد والاختلاف والتناقض والتنازع، وهو أيضاً ميدان الصراع الطبقي والمواجهات بين المصالح الاقتصادية المختلفة، في حين تتضمن الدولة الحق والوحدة والانسجام، لذلك كانت هذه الثنائية الجدلية (دولة وطنية – مجتمع مدني) حلاً موفقاً للجدل والتوتر الدائم بين النظام والحرية، أو بين القانون والتعددية.
من جهة ثانية المجتمع المدني هو مجتمع العمل والإنتاج الذي ينتج الطبقات والفئات الاجتماعية والمصالح المتعارضة، وما ينجم عن كل ذلك من علاقات وتنظيمات اجتماعية وعلاقات متبادلة وإنتاج ثقافي وقيم ومعايير مختلفة، وهو لكل ذلك ميدان التلاقي والتعاون والتنافس، أما الدولة فهي تمثل المصلحة العامة أو العمومية (3).
لذلك تصبح الوظيفة الأساسية للمجتمع المدني لَجْم الدولة حين تحاول الخروج عن مسار دولة القانون والمؤسسات ومواجهة محاولات سلطة ما لاحتلال كل الفضاءات في الدولة والمجتمع، والضغط عليها لإيجاد الحلول للتشوهات والانتهاكات التي قد تنجم في بعض الأحيان عن ممارساتها والمنطق التعسقي لها. في حين تصبح وظيفة الدولة الحفاظ على المصلحة العمومية وعلى طابعها العام المشترك وعلى صياغة العلاقات القانونية والمحافظة على بقاء جميع مؤسساتها مؤسسات وطنية عامة. فالدولة الوطنية هي التي تعبر عن الكل الاجتماعي، دولة الحق والقانون، التي يكون فيها القانون ذاته ضامناً أساسياً للحرية، وتغدو الحرية مضمون هذا القانون وغايته.
يختزل البعض اليوم المجتمع المدني إلى “السوق الاقتصادية”، وهي الرؤية التي تلتقي مع توجهات الليبرالية الجديدة. إذ يجري النظر للمجتمع المدني باعتباره مجرد بنية فوقية للنمط الإنتاجي أو للقاعدة الاقتصادية، وتكون نتيجة ذلك هي المساواة بين مفهوم الحرية وحقوق الإنسان وبين الحريات والحقوق التجارية والاقتصادية.
يبدو اختزال ميادين الحياة الاجتماعية المختلفة إلى مجرد هوامش للسوق أمرا غير منطقي، لأنه ما زال من غير الممكن قيام السوق دون الدولة، وحتى ما يسمى “السوق العالمية” لا تزال تعتمد بشكل أساسي على وجود الدول (4).
المجتمع المدني حقل متمايز، لكنه مرتبط جدلياً بالدولة والسوق، ومن هنا تجري تسميته بالقطاع الثالث في المجتمع، وهو يعمل لإلزام كل من الدولة والسوق بممارسات صحيحة تقوم على احترام قواعد دولة الحق والقانون، وإيجاد الحلول للتشوهات والانتهاكات الناجمة عن المنطق التعسفي في بعض الأحيان لكل من السلطة ورأس المال.
2- المجتمع المدني والمجتمع الأهلي
لعل أكثر الالتباسات شيوعاً في الثقافة العربية تلك التي تحاول الموازاة بين المجتمع المدني والمجتمع الأهلي. السبب في ذلك ربما بسبب قرب تعبير المجتمع المدني من الخبرة أو التجربة العربية الحديثة التي عرفت “المجتمع الأهلي”، بالإضافة للإيحاءات الدينية الإسلامية لهذا الأخير.
تشتمل علاقات المجتمع الأهلي على السمات التي تميز المجتمعات التقليدية، من عائلية وعشائرية وقبلية وطائفية، كما تنطوي على التراتبات الاجتماعية الكلاسيكية التي تنظم وتضبط العلاقات بين البشر، وهي علاقات اجتماعية تراتبية قسرية تستند إلى روابط القرابة والجوار. المجتمع الأهلي أو المجتمع الطبيعي العضوي يقوم أساساً على الروابط والعلاقات الموروثة أو الأولية (العلاقات العضوية أو رابطة الدم) التي ينتمي إليها الفرد لحظة ولادته دون توافر حرية الاختيار.
تعبر علاقات وروابط المجتمع الأهلي عن وجود حالة من التضامن الاجتماعي المستند إلى مجموعة من التقاليد والأخلاقيات الاجتماعية التي تستمد فاعليتها من رسوخها في حياة الجماعة، ومن أصولها الدينية التي يعاد إنتاجها عبر عملية التربية ونقل الإرث الثقافي المخزون في الذاكرة الجماعية. يضاف لأشكال التماسك الاجتماعي هذه أيضاً روابط أخرى كانت تجمع أهل الحرف والمهن، وتنظم العمل والعلاقات داخل قطاع الإنتاج الحرفي الذي عرفته مدن عربية عديدة في فترات متباينة من تاريخها، فالانتظام الحرفي (أو ما يسمى الطوائف الحرفية) اعتمد تراتبية مماثلة للروابط التقليدية القرابية، ابتداء من “المريد” إلى “الصانع” إلى “المعلم” إلى “شيخ الحرفة” إلى “شيخ السوق”، وهذه المراتب تقوم على أعراف وطقوس وأخلاقيات تميز بين مرتبة وأخرى في المعرفة والقيمة، أي وفقاً لدرجات تحصيل أو معرفة “سر المهنة” (5).
تميز المجتمع الأهلي عبر التاريخ باستقلال نسبي عن الدولة التقليدية التي كانت قائمة في فترة السلطة العثمانية، مما سمح له القيام بأدوار التنظيم الاجتماعي، كتقديم بعض الخدمات التعليمية الدينية وبعض الخدمات الصحية والاجتماعية من خلال مؤسسات متجذرة في التاريخ، كالزكاة والوقف والزوايا الدينية والتكايا والمستشفيات. هذا الاستقلال النسبي وتلك الأدوار التي قام بها عبر التاريخ سمحت للبعض بالقول إن في تاريخنا ما يوازي المجتمع المدني الذي نشأ في الغرب.
هذا التشابه في الشكل وبعض الوظائف بين المجتمع الأهلي والمجتمع المدني لا يعني التطابق ولا يبرر التماثل بينهما، فالمجتمع المدني يتجاوز المجتمع الطبيعي العضوي، وينتقل بالروابط إلى مستوى العلاقة السوسيولوجية، حيث تحل الروابط المدنية الحديثة (الطبقة، الحزب، الثقافة، النقابة، الجمعية… إلخ) محل رابطة الدم العضوية، وتنبني هذه الروابط على الإرادة الطوعية والاختيار الحر. من هنا تختلف منظمات المجتمع المدني عن منظمات المجتمع الأهلي في كونها تقوم على مبدأ “المواطنة” والولاء للوطن كانتماء أساسي، وكبديل للانتماءات التقليدية التراتبية بأشكالها المختلفة.
من هنا نقول: إن العودة للتاريخ العربي – الإسلامي للبحث عن أشكال وتنظيمات يمكن تأويلها على أنها تمظهرات لوجود المجتمع المدني، لا تؤدي إلا إلى المزيد من الالتباس والتشويش، وتتسبب في نمو إشكاليات جديدة على صعيد الرؤية الفكرية، كما على صعيد الواقع التطبيقي.
3- المجتمع المدني عضو في مصفوفة فكرية حديثة
المجتمع المدني، بما ينطوي عليه من دلالات ثقافية وسياسية اقتصادية واجتماعية وأخلاقية، ظاهرة أوربية المنشأ، رافقت بزوغ البرجوازية كطبقة صاعدة على أنقاض النظام الإقطاعي، ولا يمكن فصلها عن التحولات العميقة التي طالت بنى المجتمع في مستويات الاقتصاد والإنتاج، كما في مستويات الثقافة والفكر والفلسفة، وذلك منذ البواكير الأولى لعصر الأنوار وما قدمه من رؤيا وتصور جديد للعالم والتاريخ والطبيعة. ثم ما تلا ذلك من إنجازات على صعيد نمو العقلانية والتفكير الحديث، والتعزيزات المستمرة للأسس التي استندت إليها العلمنة في صراعها مع الكنيسة، وصولاً إلى الأشكال الأولى من الديمقراطية الليبرالية التي تأسست على أنقاض الملكيات المطلقة، والتي أعلنت بداية عصر جديد في النظر إلى الإنسان باعتباره الحقيقة الأولى.
هذه التحولات أفرزت أنماطاً جديدة من العلاقات، وترتب عليها تدريجياً إيجاد جمعيات ومؤسسات ومنظمات ناشطة في الميادين كافة، ومن ثم نما رأي عام في المجتمع له أهمية، بدءاً من اللحظة التي طرحت فيها قضية الانتخابات الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطن.
خلال صيرورة النمو هذه، ومع نمو ظاهرة الإنسان / الفرد، تشكلت منظومة فكرية فلسفية سياسية واسعة ومتماسكة، تضم إلى جانب مفهوم المجتمع لمدني: الإنسان، المواطن، الأمة، الشعب، العلمانية، العقلانية، الديمقراطية، المواطنة، الدولة الحديثة، الرأي العام، الانتخابات، الوطن، المشاركة السياسية، المساواة أمام القانون، الشرعية الدستورية…إلخ، ليصبح من الاستحالة النظرية والعملية التعامل مع أي من هذه المفاهيم دون الأخرى. لذلك نقول إن المحاولات الفكرية الساذجة التي حاولت وضع أسئلة فكرية سياسية على شاكلة: أيهما أولاً المجتمع المدني أم الديمقراطية ؟ من يسبق من ؟ هي إشكاليات زائفة وليس لها من وظيفة فكرية أو عملية سوى بث المزيد من الفوضى الفكرية والتخبط العملي.
المجتمع المدني بالضرورة هو مجتمع علماني تتاح فيه الحرية لجميع الأديان والمذاهب والأيديولوجيات في التعبير عن نفسها والفعل والتأثير، لكن تبقى دولته السياسية محايدة تجاه الجميع، وتستمر معبرة عن الكل الاجتماعي، الأمر الذي يسمح لنا بالاستنتاج أن المجتمع المدني لا يلتقي أو يتوافق مع دولة الاستبداد وحكم الفرد ودولة الحزب القائد للدولة والمجتمع ودولة العشيرة ودولة الفئة أو الطغمة سواء أكانت دينية أم علمانية.
لا يعارض المجتمع المدني الدين أو المتدينين، لكنه يعارض سلطة رجال الدين، ولا يتوافق مع دولة دينية، كما لا يضع المجتمع المدني نفسه في مواجهة الروابط والعلاقات الأولية، ولا ينفيها نفياً سلبياً، لكنه بحكم علاقاته وروابطه الحديثة ينفيها نفياً جدلياً، أي يجعل الأولوية والمحورية للانتماءات الحديثة وللروابط التي تفرضها، والتي تستند على شكلين من العلاقات: العلاقات الضرورية، أي العلاقات الاقتصادية، وعلاقات عملية الإنتاج الاجتماعي والمصالح والمنافع المتبادلة، والعلاقات الاختيارية أو القائمة على الإرادة الحرة، كالانضمام للأحزاب والجمعيات والمؤسسات المختلفة (6).
في المجتمع المدني يعاد بناء الانتماءات الأولية (كالانتماء إلى أسرة معينة أو إلى دين محدد أو إلى جماعة إثنية أو لغوية أو ثقافية) من جديد، وهذا أمر طبيعي، فالانتماءات الجديدة (أي الانتماء إلى الوطن أو الدولة السياسية أو المجتمع المدني أو الأمة) تحتوي الانتماءات السابقة وترتقي عليها، بحكم أنها انتماء للكل الذي يكسب الانتماءات الجزئية مضامين جديدة غير معيقة للتطور. بهذا المعنى يكف الوطن عن كونه قطعة أرض أو جغرافيا، وتكف الدولة عن كونها مجرد حدود سياسية معترف بها، ويصبح مفهوم الوطن أو الدولة ذا محتوى سياسي اقتصادي اجتماعي، بل وثقافي وأخلاقي وقانوني.
ليس هناك تجربة ديمقراطية ناجحة في ظل عدم وجود مجتمع مدني أو دون مجتمع المؤسسات، كما لا يمكن تصور وجود مجتمع مدني ناضج وفاعل في ظل حكم استبدادي مطلق أو في ظل مناخ غير ديمقراطي، فالديمقراطية والمجتمع المدني متلازمان ومترابطان، شأنهما في ذلك كالعلاقة الجدلية التي تربط بين المجتمع المدني والدولة السياسية.
4- منظمات المجتمع المدني:
إن التعامل الجاد والموضوعي مع مفهوم المجتمع المدني يقتضي تحريره من الرغبات والشحنات الأيديولوجية التي لحقت به، وإعادته إلى ميدان التاريخ والواقع، أي ضرورة قراءة المفهوم في ظرفيته التاريخية، وضمن معطيات سياسية واقتصادية واجتماعية معينة، فهناك فقط يمكن الإحاطة بدلالاته السياسية والاقتصادية والمعرفية والأخلاقية، أي لا بد من النظر للمفهوم بوصفه صيرورة تاريخية لها تعييناتها في الزمان والمكان. من هنا تأتي الصعوبة في صياغة تعريف محدد لمفهوم المجتمع المدني، فضلاً على أن التعريفات مربكة عموماً في الحقلين النظري والسياسي.
التعريفات المتداولة في الساحة الثقافية العربية هي تعريفات إجرائية تتناول تمظهرات وتجليات المجتمع المدني، ففي ندوة “مركز دراسات الوحدة العربية” 1992 اتفق حشد من المثقفين العرب على تعريف إجرائي للمجتمع المدني: “المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال نسبي عن سلطة الدولة لتحقيق أغراض متعددة، منها أغراض سياسية، كالمشاركة في صنع القرار على المستوى الوطني والقومي، ومثال ذلك الأحزاب السياسية، ومنها أغراض نقابية كالدفاع عن مصالح أعضائها، ومنها أغراض ثقافية كما في اتحادات الكتاب والمثقفين والجمعيات الثقافية التي تهدف إلى نشر الوعي الثقافي، وفقاً لاتجاهات أعضاء كل جماعة، ومنها أغراض اجتماعية للإسهام في العمل الاجتماعي لتحسين التنمية. وبالتالي يمكن القول إن العناصر البارزة لمؤسسات المجتمع المدني هي: الأحزاب السياسية، النقابات العمالية، الاتحادات المهنية، الجمعيات الثقافية والاجتماعية” (7).
على العموم تساق تعاريف إجرائية عديدة للمجتمع المدني وهي جميعاً لا تستنفد معاني ومدلولات وتعيينات المجتمع المدني. يمكن القول إجرائيا وعمليا إن المجتمع المدني هو جملة القنوات والمسارب والتنظيمات والجمعيات والمؤسسات التي يعبر فيها ومن خلالها المجتمع الحديث عن مصالحه وغاياته، وتتكون بشكل طوعي واختياري، وتعمل في استقلال نسبي عن الدولة بمؤسساتها وأجهزتها (الجيش، الشرطة، الأمن….)، ولذلك فهو يحتوي على الأيديولوجيا بمكوناتها المتعددة (الفلسفات، الثقافة، الدين، الحس المشترك…)، وعلى الأشكال المختلفة من الروابط الحديثة (الأحزاب السياسية، النقابات والنوادي والاتحادات، الهيئات الثقافية، الحركات الاجتماعية، غرف التجارة والصناعة، التنظيمات الحرفية والمهنية، الجمعيات التعليمية والصحية، الجمعيات التي تعنى بشئون البيئة والمرأة والشباب والطفل وحقوق الإنسان…إلخ)، وهذه التنظيمات التطوعية تنشأ لتحقيق مصالح أعضائها أو لتقديم المساعدات والخدمات للمواطنين أو لممارسة أنشطة إنسانية متنوعة، أو للدفاع عن المجتمع في مواجهة الطغيان والتغول المحتملين للدولة، وهي تلتزم في وجودها ونشاطها بقيم ومعايير الاحترام والتسامح والمشاركة والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف من خلال التفاوض والتحكيم والتراضي والمساومة والتصويت والانتخابات.
يمكن القول بالتالي إن أهم خصائص ومميزات تنظيمات المجتمع المدني هي (8):
1- الطوعية أو المشاركة الاختيارية الحرة، وهي تميزها عن مختلف التكوينات والروابط الاجتماعية المفروضة أو المتوارثة في المجتمع التقليدي أو المجتمع الديني (وليس المجتمع المتدين، ذلك أننا نجد مجتمعات مدنية سكانها متدينون)، وعن تلك المبنية على التراتبية والطاعة العمياء والانضباط الصارم في المجتمع العسكري (الجيش)، لذلك تكون العلاقات في المجتمع المدني أفقية، وليست رأسية أو عمودية مثل العلاقة بين شيخ العشيرة وأتباعه، أو بين الأجير والمؤجر، أو بين الضابط والعسكري، أو بين رجل الدين ومريديه، أو بين رئيس الحرفة والصانع.
في منظمات المجتمع المدني تلتقي الحرية الفردية مع الحياة الجمعية، فمن جهة لكل فرد الحق في أن يدخل أو يترك أية رابطة من الروابط التي يشارك فيها طوعاً، ومن جهة ثانية يشكل الانتماء لجمعية ما شكلاً من أشكال تجاوز المفهوم السلبي للفردية. لعل من أهم التطورات التي يقدمها المجتمع المدني هي العلاقة بين الفرد والمجتمع، انطلاقا من قاعدة ترى في تطور وازدهار حرية الفرد أمرا لا يتعارض مع الجماعة، فالجماعة الصحية هي تلك التي تتيح لأفرادها أوسع قدر من الحرية، في الوقت الذي ترى فيه أنه لا وجود لجماعة صحية تعامل أفرادها كرعايا أو كأرقام لا حول لها ولا قوة.
2- الاستقلالية النسبية عن الدولة، وهي ما تسمح بتكون رأي عام غير رسمي، أي لا يخضع لسلطة الدولة حسب تعبير غرامشي (9)، فهذه المنظمات تختلف عن تلك الموجودة في المجتمع السلطوي أو في المجتمع الشمولي الاستبدادي، حيث البشر لا رأي لهم.
3- المؤسسية: العمل المؤسسي هو أحد مميزات تنظيمات المجتمع المدني، ويشير إلى علاقات تعاقدية حرة في ظل سيادة القانون.
4- التخصص المرتبط بالغاية والدور، إذ تتشكل هذه التنظيمات حسب الميول والرغبات والأهداف والمصالح.
رغم الأهمية الكبرى لمنظمات المجتمع المدني، ورغم قناعتنا بأن حيوية المجتمع المدني لا تتجلى في شيء أكثر مما تتجلى في إنشاء تنظيمات طوعية غير حكومية، مستقلة ومتنوعة، جوهرها الخيار الديمقراطي، وغايتها دولة الحق والقانون التي تصون الحريات العامة، فإنه من الضروري أن يميز الفكر النظري على أقل تقدير بين مفهوم المجتمع المدني وشبكة الجمعيات غير الحكومية، فالمفهوم في دلالاته التاريخية والاقتصادية والسياسية وارتباطاته الفلسفية بالمفاهيم الأخرى، أوسع من أن يستنفد في شبكة من الجمعيات والمنظمات.
هوامش ومراجع:
1- جاد الكريم الجباعي “المجتمع المدني والدولة السياسية” موقع (سؤال التنوير.
2- جاد الكريم الجباعي “الدولة الوطنية والمجتمع المدني”- مجلة أمارجي- العدد(3+4)- ص55.
3- جاد الكريم الجباعي “المجتمع المدني والدولة السياسية”- مرجع سبق ذكره.
4- المرجع السابق.
5- للاستزادة حول هذا الموضوع راجع: “المنظمات الإنسانية والخيرية في الثقافة العربية”، من كتاب (نجدة المستضعف) / مؤتمر باريس للجمعيات الإنسانية والخيرية/- الأهالي للنشر والتوزيع- ط1 / 2003- ص199.
6- جاد الكريم الجباعي “المجتمع المدني والدولة السياسية”، مرجع سبق ذكره.
7- المجتمع المدني ودوره في تطوير الديمقراطية- مجموعة مؤلفين- مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت 1992.
8- عبد الغفار شكر “اختراق المجتمع المدني في الوطن العربي”- مجلة الطريق -عدد 5/ أيلول وتشرين الأول 2001 – ص 22.
و كذلك راجع: عبد القادر الزغل “مفهوم المجتمع المدني والتحول نحو التعددية الحزبية”، من كتاب (غرامشي وقضايا المجتمع المدني)- مركز البحوث العربية- ندوة القاهرة 1990- دار كنعان للدراسات والنشر- ط1، 1991.
9- د.الجبيب الجنحاني “المجتمع المدني بين النظرية والممارسة” – مجلة عالم الفكر(المجلد 27- عدد 3 – آذار 1999)- ص27.