المجتمع والأيديولوجيا كأبنية للحرب السورية/ غازي دحمان
تتمفصل الحرب السورية على أكثر من بنية ومستوى في الواقع السوري، غير أن مفاعيلها تتمظهر في مستويات أكثر من أخرى نتيجة التغذية الراجعة التي تتلقاها من تاريخية الأزمة، عبر التصاميم والهندسات التي أوجدتها القوى السياسية السورية، وخاصة تلك التي شكلت النظام السياسي منذ مرحلة ما بعد الاستقلال، بكل انتماءاتها وتوجهاتها، نتيجة لمحاولات توظيفها للبنى الاجتماعية والأيديولوجية لتدعيم شرعيتها السياسية أو لإخضاع تلك البنى تحت سقف النسق التسلطي الذي أسسته لاستدامة حكمها واستغلالها.
تشكل البنية الاجتماعية في سوريا واحدة من أكثر بنى الأزمة تعقيداً لما تنطوي عليه من تعقيدات مزمنة. إذ لا تختلف بنية المجتمع السوري عن بنية مجتمعات البلدان المتجاورة، مثل لبنان والعراق، والتي انتهت إلى انفجار العلاقة بين المكونات المشكلّة لها. فبالإضافة الى طابعها الفسيفسائي، فهي بنى مغلقة ولم تعش درجة اندماج كافية تشكّل من المرونة ما تستطيع من خلاله تجاوز التوترات والأزمات التي يمر بها مجتمع من المجتمعات. صحيح ان تاريخ الاجتماع السوري لم يشهد صراعات كبيرة على مداره، لكن الانقسام كان واضحا، إذ بقيت المكونات منغلقة على نفسها بدرجة كبيرة. هذا ما نلاحظه من خلال هندسة المدن والتوزع الديمغرافي داخل سوريا، وما يمكن معرفته من خلال المواقف تجاه منظومة القيم للطرف الاخر، فقد ظل المسيحيون في سوريا يسكنون مناطق محددة في دمشق وحلب، وهناك انفصال بين شوارع السنة والعلويين في اللاذقية، كما حاول الدروز إبقاء السويداء مدينة درزية خالصة. لا يختلف الأمر على المستوى المناطقي وشيوع التعامل التمييزي بين الأطراف.
وعلى رغم درجة التحضر العالية في المجتمع السوري، من خلال سكن النسبة الأكبر من السكان السوريين في المدن وأشباه المدن، غير أن ذلك بقي شكلانياً، إذ إنطوت غالبية المدن الكبرى على بنى عشوائية التهمت فضاء المدينة وحصرتها ضمن نطاق محدد، ولم يجر تمدين هذه الشرائح ودمجها بالحياة المدنية العصرية كما لم يتم تأهيلها والاستفادة منها، نظرا لدرجة التخلف الضاربة في الاقتصاد السوري وهيمنة نظام الحكم على المجال الاجتماعي، ومنعه من تشكيل الأدوات المساعدة على تطوير هذه البيئات وتمثيلها في النظام السياسي» جمعيات ونواد ونقابات واتحادات». ونتيجة لذلك ظلّت هذه البيئات خارج الفعالية العصرية ولم تجد سوى البنية العشائرية للاحتماء بداخلها والتعبير عن نفسها من خلال الانتماء إليها، على ما تنطوي عليه هذه البنية من تعارض مع الحداثة والقيم العصرية.
وبرغم توفر أليات الدمج القسرية التي أوجدتها الأنظمة السياسية المتعاقبة على سوريا، كالخدمة في الجيش والوظائف العامة، إلا ان عمليات التمييز السياسي والطائفي ضمن هذه المؤسسات قد أفسد أي إمكانية لظهور مجتمع منسجم ومتماسك. بل العكس من ذلك زادت درجة التقوقع داخل البنى الما قبل دولتية «العشيرة والطائفة» نتيجة المحسوبيات التي تجري ممارستها في العلن ضمن هذه المؤسسات وسيادة علاقة الإستزلام والولاءات الضيقة.
هذا الواقع الاجتماعي سيجد صداه السيء ضمن البنية الأيديولوجية التي ستدخل حالة من الركود المديد، وتنقسم ضمن تشكّلين لا ثالث لهما: استبدادي وإسلاموي، كما انها لن تستطيع وضع تصورات ورؤى تناسب التغييرات التي يشهدها المجتمع، وستصير ادواتها في القهر والتنكيل أو التعصب والتدين. وساهم هذا الأمر بدرجة كبيرة، في إضعاف حيوية المجتمع السياسي السوري، إذ لم تنشغل النخبة السياسية بابتكار وتشكيل وتنفيذ الرؤى العظمى التي تتصور طبيعة العلاقات بين طبقات المجتمع وعلاقات الإنتاج والتوزيع والمشاركة في الحكم، وعلى مدار مرحلة طويلة تظلّل نظام الحكم بإيديولوجيا المقاومة التي لم تكن تعني سوى محاولة للتهرب من الاستحقاقات السياسية والمجتمعية، ولم يكن لها تعيّنات واضحة على أرض الواقع، فيما هرب المجتمع باتجاه أيديولوجية دينية خلاصية كانت المنفذ الوحيد، وربما الإجباري. وقد أنتج هذا الواقع الراكد حقلاً مفاهيمياً موازياً وتركيبات فلسفية ونظريات واستراتيجيات ومفاهيم على شاكلتها، إذ انتعشت نظرية المؤامرة بشدّة وصارت السلطة تقارب كل ظاهرة سياسية انطلاقا من هذه الرؤية، فيما تشكّلت الذهنية المعارضة بطريقة غير ممنهجة غلب عليها الطابع النظري المثالي.
كيف يمكن تفكيك تلك البنى المعطلة للتقدم والتخلص من الخراب الذي تنتجه، خصوصاً بعد تراكم الأعطال جراء الحرب الشرسة وما نتج عنها من هجرة للقوى والفئات المدنية والتي يعول عليها في إعادة البناء؟، لا شك ان الأمر سيحتاج إلى جهد نوعي وإعادة بناء شاملة تبدأ من إعادة صياغة مفاهيم الاجتماع والثقافة السياستين وتطبيقاتهما ضمن الحقول السياسية. ولا شك أيضا أن ذلك الامر يستدعي وجود نظام سياسي عصري يستطيع دمج هذه التطورات ضمن أبنيته وهياكله الدستورية والمؤسساتية.
المستقبل