‘المجلس الوطني’ و’هيئة التنسيق’: استعصاء الاداة ام اقتسام العجز؟
صبحي حديدي
حمص (المدينة ‘المنكوبة’ حسب التعبير القاصر الذي استخدمه ‘المجلس الوطني السوري’، وكأنّ زلزالاً ألمّ بالحجر والبشر!) لم يكن ينقصها إلا تلك ‘النكبة’ الأخرى التي شهدتها العاصمة المصرية أمام مقرّ الجامعة العربية. كانت دبابات النظام ومدفعيته وطائراته الحربية تواصل حصد الأرواح بدم بارد، وهمجية منفلتة من كلّ عقال، حين توافد عدد من شخصيات المعارضة السورية إلى القاهرة، بدعوة من نبيل العربي، الأمين العام للجامعة العربية. وكان أن اختلفوا فيما بينهم أكثر ممّا اتفقوا، وأعلن بعضهم الانسحاب من المشاركة دون تبيان الأسباب حتى الساعة، أو مع تبيانها نزر يسير منها على نحو أقرب إلى الغمغمة منه إلى إيضاح سبب واحد مفهوم.
وما زاد في بؤس المشهد أنّ نفراً من غلاة السوريين أنسوا في أنفسهم القدرة على الجزم بأنّ وفد المعارضة السورية يوشك على ارتكاب ‘خيانة عظمى’ بحقّ الانتفاضة السورية، فسارعوا إلى الاعتداء الجسدي على بعض أفراد الوفد، أو رشقوا بعضهم الآخر بالبيض والحجارة. وكان السلوك هذا لا يستدعي الاستهجان الصريح والإدانة القاطعة فحسب، بل يستدرّ الشفقة على هذا التدرّب، الهجين والفجّ، على استخدام الحقّ في التعبير الحرّ، حتى بالبيض والبندورة. كان ممكناً، وربما مشروعاً، استقبال الوفد بهتافات أو لافتات توضح طبيعة اعتراض الحشود على الزيارة، سواء انطوى الاعتراض على وجاهة مقبولة أم بُني على تعسّف، واتصل بمعطيات ملموسة أم تأثر بتسريبات مختلقة، وتحرّك عفوياً وعاطفياً أم سهرت على تحريكه أياد ذات مصلحة…
كل ذلك لا يمسّ، في أية حال، حقّ المرء في الاختلاف مع هذه الكتلة السورية المعارضة أو تلك، وفي الاتفاق مع المجلس الوطني السوري أو ‘هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي’، فضلاً عن هذا أو ذاك من الشخصيات المعارضة المستقلة، أو التي لا تحتسب نفسها إلا على الإطار العامّ للمعارضة، بعيداً عن كلّ وأيّ مجموعة ذات انتظام. خلاف وفد القاهرة كان مدعاة عجب (إذْ يسأل المرء ببساطة: علام تفاهموا، إذاً، قبيل مجيئهم في وفد موحّد؟)؛ وكذلك كان محزناً أن يكون بعض الخلاف قد نجم عن تفسير حسن عبد العظيم، الأمين العام لحزب الإتحاد الإشتراكي العربي الديمقراطي والمنسّق العامّ لـ’هيئة التنسيق’، بأنّ الدعوة موجهة إلى ‘هيئة التنسيق’ وحدها، وهي التي سوف تتولى التمثيل الرسمي والنطق باسم الجميع في اللقاء مع العربي (كما نفهم، على الأقلّ، من بيان ‘تيار بناء الدولة السورية’ الذي انسحب من الوفد).
فإذا جاز استهجان هذه الحال، والله يعلم أنّ ثمة الكثير الذي يستوجب الاستهجان هنا، فقد كان حرياً بغلاة السوريين الذين احتشدوا ضدّ وفد المعارضة، واعتدوا ورشقوا البيض والحجارة، أن يعبّروا عن استهجان مماثل، لأسباب ليست أقلّ وجاهة، حين استقبل الأمين العام للجامعة العربية وفد المجلس الوطني السوري، قبل أيام. صحيح أنّ هذا الوفد جاء موحداً (من حيث المظهر، في أقلّ تقدير!)، وحمل سلّة مطالب واضحة ومتجانسة (حتى إذا كان بعضها لا يُنال بالتمنّي على أية جهة أخرى، عربية أو أجنبية، باستثناء أهل الانتفاضة السورية، بنسائها وأطفالها وشيبها وشبابها). إلا أنّ المجلس ظهر إلى العلن بعد غياب طويل واحتجاب غير مفهوم، مثقلاً بالأخطاء الفادحة، وميادين التقصير الفاضحة، والسبات والخمول والتراخي والاتكال… حين كان النظام يريق المزيد من الدماء السورية الزكية، ويستبيح حمص، ويحيل أفكار الجامعة العربية، إسوة بمبادرتها السابقة الموؤودة، إلى أضحوكة.
فهل كان عسيراً، يسأل المرء، أن تذهب المعارضة إلى لقاء العربي بوفد موحّد، بافتراض أنّ نقاط الاختلاف بين ‘المجلس الوطني’ و’هيئة التنسيق’ ليست على درجة من التباين تحتّم تشكيل وفدين، وتقسيم المهمة الواحدة إلى اثنتين؟ أم أنّ ذلك الافتراض هو الخاطىء، في واقع الأمر، وكما اتضح على الأرض عملياً؛ والتباين لا يشكّل هوّة فاغرة بين كتلتَيْ المعارضة، فحسب، بل استدعى العنف الجسدي والبيض والحجارة من بعض الغلاة، والتراشق المتبادل ذا الطراز الآخر (نأي المجلس الوطني بنفسه عن الغلاة، ومسارعة بعض ممثّلي ‘هيئة التنسيق’ إلى اتهام المجلس بالوقوف وراء المشهد البائس)؟
وفي كلتا الحالتين، هل هذه هي المعارضة السورية التي تليق بالطور الراهن من عمر الانتفاضة، أو الطور الراهن من خيارات النظام في كسر إرادة الشعب؟ وإذا كان هذا هو الذي يفرّقها، فما الذي يجمعها، أو سيجمعها، اليوم أو غداً أو بعد غد؟
لم يعد سرّاً أنّ ما أثار غلاة السوريين أمام مقرّ الجامعة العربية، هو ذاته ـ وإنْ صيغ بلغة أخرى، أكثر تعقيداً وفذلكة ـ بعض ما يفرّق أطياف المعارضة السورية، في الداخل مثل الخارج، ويأخذ طريقه أيضاً إلى الأداء اليومي لمختلف التنسيقيات ولجان العمل المنخرطة ميدانياً في إدارة الحراك الشعبي. وذاك افتراق يفعل أفعاله، اليومية، على مستوى الأحزاب أو الهيئات أو التجمعات أو المجالس أو الأفراد المستقلين، بصرف النظر عن التلاوين الإيديولوجية الصرفة، بين تيارات يسارية أو قومية أو إسلامية أو ليبرالية، أو تعبيراتها السياسية والمدنية والحقوقية والفكرية، علمانية كانت أم متديّنة أم في منزلة وسيطة. وذاك افتراق ينبغي أن يكون طبيعياً، ابن الحياة التي تغتني بالتعدد والتنوّع لا بالأحادية والامتثال، فلا يلغي الحقّ في الاختلاف، وليس له أن يفسد للودّ قضية كما يسير التعبير الشائع.
بيد أنّ نهج النظام في تغييب السياسة عن الوعي السوري، طيلة أربعة عقود من عمر ‘الحركة التصحيحية’ بين حافظ الأسد ووريثه بشار الأسد، كان كفيلاً بتغييب ثقافة الحوار حتى بين أطراف الصفّ الواحد والحساسية السياسية او الفكرية المتجانسة، من جهة أولى؛ وكان، من جهة ثانية، ميدان تنشئة لثقافة أخرى مضادة، تبدأ من رفض الآخر على قاعدة الاختلاف معه، ولا تنتهي عند تخوينه وتأثيمه، قبيل محاربته بأساليب وذرائع وأسلحة أسوأ ممّا تُجرّد ضدّ الخصم المشترك، الأكبر والأعتى. وإذْ لا يجوز للمرء الارتياب في مقدار ما أضافت أشهر الانتفاضة الثمانية من ثقافة بديلة، مقاومة وتسامحية وائتلافية وديمقراطية، فإنّ الرواسب المتراكمة تظلّ هي الأثقل، وعقابيلها أطول عمراً، وأبعد أثراً، وأشدّ قدرة على إلحاق الأذى.
وبذلك كان وفد المعارضة السورية قد وصل إلى القاهرة، تسبقه مفاعيل ذلك الافتراق وقد اختزلها الوعي المغالي ـ الشعبوي، العنيف أيضاً، العصبوي المتعصّب، ولكن ليس ذاك الذي تنطبق عليه صفة الغوغاء أو الدهماء، كما شاء البعض الإيحاء من قبيل الإفراط في جبر الخواطر! ـ في ثلاثة محرّمات، تمّ افتراضها مسبقاً أغلب الظنّ: أنّ الوفد سيطلب عدم تجميد عضوية سورية في الجامعة العربية، كما سيرفض أي شكل من أشكال حماية المدنيين، وسيلحّ على ضرورة استمرار الحوار مع النظام لبلوغ الإصلاحات. ورغم أنّ مواقف معظم أعضاء الوفد ـ ولكن ليس كلّهم، للإيضاح الضروري ـ لا تذهب باتجاه تلك المحرّمات الثلاثة، ولم يتوفّر أي دليل بعد على أنّ مواقفهم تبدّلت في الرحلة إلى القاهرة، فإنّ الغليان كان قد بلغ الذروة لتوّه، مسبقاً في الواقع، فاستدعى البيض والحجارة والعنف، بعد أن استولد سلسلة من الأسئلة الافتراضية.
وتلك أسئلة إشكالية، استطراداً، لأنها تنبثق من الافتراض وحده أوّلاً؛ ولكنها مشروعة، في اعتبارات عديدة، ثانياً؛ وتنهض، ثالثاً، على استبعاد أسئلة أخرى رديفة قد تشكّل، في ذاتها، إجابات شافية من وجهة نظر الآخر المختلف. فقد يطرح أحد راشقي البيض والحجارة السؤال التالي: كيف يجيز أعضاء الوفد لأنفسهم طرح هذه المحرّمات، الأشبه بالخطوط الحمر في الطور الراهن من الوعي الشعبي العريض، والنظام يوغل في دماء السوريين بهذه الوحشية؟ وقد يردّ عليه الآخر، بسؤال مضاد: ولكن ألا يتوجّب، في الطور الراهن من الوعي الشعبي ذاته، تفادي تحوّل المواجهات بين الجيش النظامي والجنود المنشقين إلى عسكرة الانتفاضة؟ وقد يُثار سؤال ثالث، كالآتي: هل نترك المدنيين عرضة للقتل والاعتقال والاختطاف والتعذيب والتصفية، دون حماية دولية؛ فتأتي الإجابة: كلّ حماية دولية هي مقدّمة للتدخّل العسكري الخارجي، وهذا مرفوض مطلقاً…
نطاق الأسئلة الأخرى سوف يشتمل على مخاوف الوحدة الوطنية، والحرب الأهلية، وأوضاع الأقليات الدينية والإثنية والطائفية، واحتمالات أسلمة الشارع السوري ومنعكساته على العلمانية والتسامح والتعددية، وآفاق المصالحة الوطنية، ومصائر الشبيحة والميليشات وجماهير النظام عموماً، والتطابق أو التنافر بين المسألة الوطنية والمسألة الديمقراطية، ومستقبل الجيش الوطني، وتحرير الجولان المحتل، والعلاقة مع العدو الإسرائيلي، وهواجس الموقع السوري الوطني في التشكيل الجيو ـ سياسي للمنطقة… وهو، هنا أيضاً، نطاق طبيعي تماماً لو أحسنت أطراف المعارضة تناوله دون تأثيم للآخر يتكىء على تنميطات جاهزة، أو جرّبت الخوض فيه دون خشية مسبقة من عواقب الخطأ والصواب.
وضمان الأمان في هذه السيرورة، الشائكة دائماً والحقّ يُقال، ليس بحاجة إلى اعتمالات أليمة أو مخاضات عسيرة، إذْ تتولى الانتفاضة توفيره كلّ يوم، مع كلّ شهيدة وشهيد، ليس البتة ضمن أية صياغة أحادية تحتكر التمثيل والتعبير والنطق، بل عبر ذلك التنوّع العبقري الذي أدام الحراك الشعبي طيلة أشهر ثمانية، وأطاش صواب النظام بمؤسساته العائلية والأمنية والعسكرية والمالية والسياسية كافة. وإذا صحّ أنه أطاش صواب بعض أطراف المعارضة، أيضاً، وكان قميناً به أن يفعل، في الداخل مثل الخارج، فذلك لأنّ قسطاً كبيراً من خلافات تلك المعارضة تصنعه تلك الحصيلة المزجية بين استعصاء الأداة (تكوينات المعارضة الكلاسيكية، على تنوّعها)، وديناميكة الحراك الشعبي (الذي استبق المعارضة أصلاً، وكان طبيعياً أن تظلّ شعاراته أسبق دائماً، وأكثر جذرية غالباً).
وتلك التكوينات منضوية، كلّها أو تكاد، في واحد من تكتّلَيْ ‘المجلس الوطني’ أو هيئة التنسيق’، ومن المنطقي أن تخضع لعوامل شتى تؤثّر في برامجها السياسية اليومية، وفي تنظيراتها العامة بصدد حاضر الانتفاضة ومستقبلها، فضلاً عن الإجابات التي تقترحها للأسئلة الآنفة.
ومن غير المنطقي المساجلة بأنّ تلك العوامل لا تنهض، بدورها، على إرث الماضي السياسي والعقائدي والتنظيمي، وعلى اعتبارات سوسيولوجية تختلط فيها انحيازات الطبقة بوطأة المحيط الإثني أو الديني أو الطائفي؛ وبالتالي ليس من مفاجأة في أن يتفق معارضان، كما يحدث اليوم بالفعل، على هدف إسقاط الاستبداد، ولكن… دون إسقاط النظام!
وثمة، بالتالي، ما يُلقي بفارق مثل هذا في منطقة وسطى مدهشة، بين استعصاء الأداة واقتسام العجز!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس