المجلّات الثقافية أزمة مال وأكثر
محمد حجيري
في عددها الأخير، برّرت إدارة مجلة “بدايات” تأخر صدورها إلى حاجتها للمزيد من الوقت لتجميع موازنتها أو كلفتها، وشكرت “قلّة من الأصدقاء التي توفّر كل ثلاثة أشهر ما يكفي لإصدار عدد جديد من “بدايات”، وطالبت المعنيين “بوجود أصوات متزايدة لليسار المستقل، بالإقبال على شراء المجلة”، التي “اجتازت فترة البدايات وهي مستمرة”.
بمنأى عن مضمون “بدايات” والمادّة الغنية التي تقدّمها، لا يحتاج كلامها تأويلاً ليكون تعبيراً عن المشكلة التي تعانيها المجلات الثقافية. لم تتجاوز “بدايات” عددها الثالث حتى أصبح استمرارها نوعاً من تحدّ يواجهه أصحابها وكتّابها.
“بدايات” اليسارية كانت جزءاً من موجة مجلات يعتقد البعض أن الحراك “الثوري” الراهن في العالم العربي شكّل دافعاً لبروزها ومنها مجلة “الطريق” الشيوعية التي ارتبطت تاريخياً بالناقد محمد دكروب، و”كًلًمُن” التي استندت إلى مشروع فكري ليبرالي وضمّت مجموعة من الكتّاب وعلّلت أسباب صدورها، في أن المجلات الشهريّة أو الفصليّة التي سبق للمثقّفين العرب أن عرفوا تجارب رائدة منها، “انكمش حضورها وتراجع”. ومجلة “الآخر” للشاعر أدونيس التي يغلب عليها طيف الشاعر نفسه، دون أن ننسى “الكرمل الجديد” الفلسطينية التي حاول رئيس تحريرها الحالي الاستفادة من طيف رئيس تحريرها السابق الشاعر الراحل محمود درويش.
عندما شهدت بيروت فورة هذه المجلات، عبّر كثيرون عن دهشتهم: من أيّ كتّاب إلى أي جمهور في زمن الإنترنت؟ وبأيّ تمويل ما دامت لا تردّ مبيعاتها ثمن ورقها فكيف إذا تقاضى كتّابها ثمن مساهماتهم؟
من دون شكّ صدرت المجلات البيروتيّة من “اللحم الحي” كما يقول المثل، وكل واحدة من تلك المجلات وجدت طريقها إلى القرّاء وبترحيب متفاوت من النقاد والكتّاب، وسرعان ما بدأت المشاكل الفعلية تظهر على الملأ. مجلة “بدايات” تشير إلى مشكلتها المالية، ومجلة “كلمن” توقفت بعد أعداد قليلة لأسباب مالية أيضاً، وكانت تشير في كل عدد منها إلى الجهة التي موّلتها، مجلة “الكرمل الجديد” لم تصدر سوى عدد واحد، ومجلة “الآخر” لم تخرج من فضائها الأدونيسي والنخبوي، مجلة “الطريق” لم تقدّم جديداً في مشروعها الثقافي، لم تواكب الواقع الراهن، عادت من حيث توقفت قبل سنوات إلى تقديم إعداد عن الراحلين حسين مروة ومهدي عامل، كأنّ شيئاً لم يتغير في الزمن والثقافة.
لا تقتصر المشكلة على المجلات البيروتية. في مصر رائحة موت المجلات الثقافية وتعثّرها بدأت قبل مدة، منذ أن سيطرت جماعة الأخوان على السلطة صارت المطبوعات بين مأزقين أو أكثر، مأزق أخونة المؤسسات الثقافية ومأزق التمويل ومأزق التضييق على الحريات دون أن ننسى مأزق القارئ واتجاهه إلى القراءة على شبكة الانترنت.
أبلغ تعبير عن موت المجلات الثقافية إعلان سماح إدريس عن احتجاب مجلة “الآداب” اللبنانية في انتظار إصدارها إلكترونياً، المال ليس سبباً لوداع المجلة بحسب إدريس، فـ “المجلة كانت خاسرة على نحو شبه متواصل، وهي قلّما ربحت أو غطّت كلفة إنتاجها طوال أكثر من ثلاثة أرباع عمرها”. وتساءل إدريس “ما معنى إصدار مجلة حين يتراجع عدد القرّاء؟ وهل الإصرار على إصدارها بطولة واجبة أم إضاعة لجهد كان يمكن أن يصرف في مواضيع أخرى قد لا تقلّ أهمية ومردوداً ثقافياً ونهضوياً وانتشارياً؟”.
هذا الاحتجاب يؤكد موت المجلات الأدبية العربية، على رغم المحاولات المستمرة في مصر وبيروت والسعودية وعُمان والمغرب ودبي وقطر وأبو ظبي والعراق حيث صدرت مجلة “الكوفة” حديثاً وربما قريباً في سوريا حيث يستعد الشاعر نوري الجراح لإصدار مجلة بعنوان “دمشق”.
عدم توافر المال يسبب مشكلة كبيرة للمجلات الثقافية، ووفرته أحياناً تسبب مشكلة أكبر، فالكثير من المجلات المموّلة يغلب عليها الطابع النفعي ولا تخدم مشروعاً ثقافياً. لم يقدر بعض المتموّلين العرب على إنتاج مجلة ثقافية تلفت الانتباه، أولاً بسبب غياب الحرية اللازمة وثانياً بسبب غياب الرؤية والهدف، وعلى هذا تتحوّل المجلة إلى منشور تزينه زويا مجموعة كبيرة من الشعراء والكتاب العرب.
من الصعب توقّع عمر طويل للمجلات الثقافية العربية، ولن يُفاجأ أحد إذا ما أصدر المسؤولون عنها، أو بعضهم على الأقل، بيانات بتوقفها عن الصدور، وربما تتوقف من دون بيان رثاء.