المخابرات المركزية وتصنيع الحداثة/ صبحي حديدي
يحتضن «بيت ثقافات العالم» في برلين معرضاً متميزاً بعنوان «شِبْه سياسة: الحرية الثقافية والحرب الباردة»، يقول منظموه إنه مكرّس للبعد العالمي للسياسة الثقافية و»المعاني والأغراض المتغيّرة التي اقترنت بالحداثة». ويبدأ مفهوم المعرض من حقيقة أنّ الفنون والثقافة دخلت، بعد الحرب العالمية الثانية، في صميم صراعات المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، في ما يشبه «سباق تسلّح ثقافي»؛ بدأ، حسب النصّ المثبت في نشرة المعرض، بتأسيس «مؤتمر الحرية الثقافية»، في حزيران (يونيو) 1952، في برلين الغربية، بمبادرة أمريكية. ومن مقرّه الإداري في باريس، موّل المؤتمر برامج ثقافية لا حصر لها، شمل نطاقها الجغرافي بلدان أمريكا اللاتينية وأفريقيا وجنوب آسيا والشرق الأوسط، وانطوت على تطوير شبكة من المجلات والمؤتمرات والمعارض التي رفعت شعار لغة «كونية» للحداثة في الأدب والفنّ والموسيقى. وفي سنة 1967، كُشف النقاب عن هوية المموّل الفعلي للمؤتمر، واتضح أنها المخابرات المركزية الأمريكية.
كانت الفضيحة مدوية، بالطبع، لأنّ عشرات الكتّاب والمفكرين والفنانين والموسيقيين، ممّن ساهموا لتوّهم في أنشطة «المؤتمر» المختلفة، كانوا على جهل تامّ بمصدر التمويل والأهداف البعيدة لما انخرطوا فيه من برامج؛ بل كان بعضهم محسوباً على اليسار، الشيوعي وغير الشيوعي، أو على التيارات الليبرالية، ومدارس الحداثة التعبيرية والتجريدية والدادائية في الفنون، وثورات التجديد في الشعر والرواية والمسرح. على سبيل المثال، يتضمن معرض برلين نماذج من المجلات الثقافية التي أصدرها المؤتمر في بريطانيا وألمانيا ونيجيريا واليابان ولبنان وبلدان أخرى؛ وكانت منابر امتزجت على صفحاتها نزعات التحديث والتجريب والتمرد، إلى جانب الفلسفات المحافظة والرجعية والمتزمتة. ستيفن سبندر، الشاعر والروائي والناقد الإنكليزي الذي كان المحرر الثقافي في «إنكاونتر»، المجلة التي أطلقها المؤتمر سنة 1953 في بريطانيا، استقال على الفور بعد افتضاح أمر التمويل؛ هو الذي انتمى إلى جيل من الكتّاب عُرفوا بالتمرد على المؤسسة، أمثال و. هـ. أودن ولويس ماكنيس وسيسيل داي لويس.
في العالم العربي، كانت «حوار»، المجلة المعروفة التي موّلها المؤتمر وترأس تحريرها توفيق صايغ، وصدرت في بيروت بين سنوات 1962 ـ 1967؛ ضمّت طائفة من الأسماء اللامعة، ولكن غير المتجانسة فكرياً أو جمالياً أو سياسياً، أمثال عبد الرحمن بدوي، بدر شاكر السياب، ألبرت حوراني، جبرا إبراهيم جبرا، سهير القلماوي، علي الجندي، جميل صليبا، محمد الماغوط، أنيس صايغ، غالي شكري، زكريا تامر، نجيب محفوظ، غادة السمان، ياسين رفاعية، ليلى بعلبكي، سنية صالح، مصطفى بدوي، وليد إخلاصي، سلمى الخضراء الجيوسي، صدقي إسماعيل، جواد سليم، مجيد خدوري، ثريا ملحس، رياض نجيب الريس، زكريا إبراهيم، الطيب صالح، صبري حافظ، جورج شحادة، لويس عوض، محمد عفيفي مطر، عبد السلام العجيلي، نزار قباني، عفيف بهنسي، محمد مندور، أنسي الحاج، عبد الله عبد، شاكر حسن آل سعيد، يوسف إدريس، صادق جلال العظم، إبراهيم أصلان، سركون بولص، فؤاد التكرلي…
وبالطبع، المرء هنا يتذكر الكاتبة والمخرجة الوثائقية البريطانية فرنسيس ستونر سوندرز، في كتابها «من الذي دفع للزمّار: الحرب الباردة الثقافية»، الذي نقله إلى العربية طلعت الشايب؛ وفيه رصد مفصّل لبدايات فكرة توظيف الثقافة والفنون في معارك الحرب الباردة، وخاصة من زاوية رعاية تيارات الحداثة والتجارب الثورية. وفي حوار مطوّل مع جورج ميروني، نُشر سنة 2011 في مجلة «بلايبوي»، كان توم برادن، المذيع في «سي إن إن» رسمياً ولكن الموظف السري في المخابرات المركزية الأمريكية ومهندس هذه الحرب الثقافية الباردة، قد سرد تفاصيل المشروع، وكيف راوده أثناء حضور معرض لأعمال بابلو بيكاسو، وكم فوجئ بالنجاحات الباهرة التي لقيتها برامج «مؤتمر الحرية الثقافية». كان في وسعه، بعد أن حظي بثقة رئيس الوكالة ألن دالاس، أن يصرف مكافأة بقيمة 50 ألف دولار، وهذا مبلغ هائل حسب القيمة الشرائية لخمسينيات القرن الماضي، دون أن يسأله أحد، كما قال. كان الهدف «توحيد ما أمكن من الكتّاب، أو الموسقيين، أو الفنانين، وكلّ الناس الذين يتبعونهم، أناس مثلك ومثلي ممّن يذهبون إلى حفلات موسيقية أو يزورون معارض فنية، وإقناعهم بأن أنظمة الغرب والولايات المتحدة هي الأخلص لحرّية التعبير والإنجاز الثقافي».
ومن مفارقات معرض برلين أنّ البيت الذي يحتضنه كان، في الأصل، حجر أساس لإطلاق سباق «التسلّح الثقافي» من ألمانيا؛ حيث شُيّد المبنى/ الصرح بتمويل أمريكي، وبتصميم من المعماري الأمريكي هوغ ستوبينز؛ وافتُتح في خريف 1957 ليكون رمزاً لحرّية التعبير والإبداع والممارسة الثقافية في وظائفه، ولكن أيضاً من حيث طرازه المعماري الذي يتوسل الحداثة. منصف، إذن، أن يقتبس المرء ما تنقله صحيفة الـ»غارديان» البريطانية على لسان بيرند شيرر، مدير «بيت ثقافات العالم»، الذي يخطّيء برنامج المخابرات المركزية الأمريكية من حيث وجهة توظيف مفردة «الحرّية»، وبالتالي إفسادها؛ مشيراً إلى مفارقات الوكالة في سياسات التمويل التمييزية.
ولعلّ معرض برلين يذكّر مجدداً، وكما يفيد عنوانه في الواقع، بأنّ السياسة لا تنهض على أنساق مكشوفة دائماً، والشِبْه المموّه في بعضها قد يكون أفدح عاقبة من الفاقع الجلي!
القدس العربي،