المخاض مستمر والتغيير آت

غسان العزي

تمر الذكرى الثانية للثورات العربية والشامتون المعارضون للتغيير يبتسمون في الخفاء وفي العلن إزاء ما يعدونه شتاءً إسلامياً وليس ربيعاً ديمقراطياً وهي تسمية رفعها المتفائلون بمستقبل هذه الشعوب التي أعلنت أنها تريد الحياة .

ففي مصر يتعثر حكم الإخوان ويتخبط في أوحال مرحلة انتقالية تتسم بالكثير من الغموض والخطورة . في محيط قصر الاتحادية الرئاسي تسحل الشرطة رجلاً عارياً . وفي ميدان التحرير تغتصب النساء فينبري أحد الدعاة الإسلاميين لإصدار فتوى تقول إن المذنب هن النساء اللواتي يختلطن بالرجال في التظاهرات .

ما يحدث في مصر يهدد بانهيار الدولة العريقة الموروثة من قرون طويلة، على ما حذر رئيس الحكومة المصري نفسه .

وفي تونس يغتالون معارضاً مناضلاً في جريمة لم تحدث حتى في أحلك أيام حكم الرئيس ابن علي . وتتخبط حكومة الائتلاف التي يسيطر عليها حزب النهضة الإسلامي في أوحال مرحلة ضبابية تهدد الحزب نفسه بالانقسام بين رئيس وزراء يصر على حكومة تكنوقراط وقيادة حزب تصر على عدم ترك السلطة ولو إلى حين .

وفي اليمن لا يزال الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح قادراً على التأثير ومنع الانتقال السلمي للسلطة . أما في ليبيا فالحكومة التي نجت من هيمنة حزب واحد لا تزال تواجه كماً من الصعوبات يصعب معها القول إن المرحلة القذافية انصرمت من غير أن تترك وراءها ندوباً عصية على الاختفاء . وفي سوريا فإن كل الاحتمالات السوداء ممكنة من تقسيم للبلد إلى استمرار لحمام الدم من دون أفق إلى عودة للنظام في تسوية ما بين غرب يخشى سيطرة الإسلاميين وشرق (روسيا وإيران . . .) يتمسك بنظام هو معقله الأخير في هذه المنطقة الاستراتيجية المهمة من العالم .

هل يمكن القول إن الشعوب العربية لا تستحق الديمقراطية أو أنها لا تزال غير ناضجة لممارسة  حكم مدني قائم على المشاركة والتعددية واحترام الرأي الآخر؟ أم أن الثقافة الإسلامية هي المسؤولة عن هذا العجز الديمقراطي؟ أسئلة كثيرة يطرحها مراقبون من خلفيات معادية للعرب والمسلمين ومحللون من خلفيات علمية تتوخى الحقيقة والموضوعية .

ليس المجال هنا لمناقشة علاقة الإسلام بالديمقراطية فمن نافل القول إن الدين الحنيف، وبحسب معظم المستشرقين المختصين بالحضارة الإسلامية، يتفق تماماً مع الجمهورية ومع الديمقراطية بل إنه كان السباق تاريخياً في هذا المجال .

وبالطبع فقد أثبتت الدراسات الانطروبولوجية والسياسية أن الشعوب تشترك جميعها في حبها للحرية والعدالة والاستقلال (كتابات عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران غزيرة في هذا المجال) وأن الشعوب العربية من أكثر الشعوب تقديماً للتضحيات في سبيل الاستقلال عن الاستعمار . وما حدث في العام 2011 يثبت أنها وإن صبرت طويلاً على الظلم وتأخرت قليلاً في الثورة عليه إلا أنها قررت “إسقاط النظام” ونجحت في ذلك، وهي لا تزال في سوريا تدفع ضريبة الدم سعياً وراء الحرية والتغيير .

إن ما يجري اليوم في بلدان الثورات العربية ليس ظاهرة تنفرد بها الشعوب العربية عن غيرها ممن سبقها في التمرد والثورة على النظام القائم . كل الثورات في التاريخ مرت بمرحلة انتقالية تخللها سفك دماء وعودة للنظام الدكتاتوري القديم بحلة جديدة . فالثورة الفرنسية أكلت أبناءها ومرت بقرن كامل من انتقال صعب تخللته عودة للدكتاتورية والنابليونية وثورات مثل كومونة باريس وغيرها قبل أن يتحقق الانتقال الديمقراطي الكامل في العام ،1894 بحسب وزير الخارجية الفرنسي الأسبق أوبير فيدرين . والثورة البولشفية، هي الأخرى، أكلت أبناءها وأفرزت إحدى أعتى الدكتاتوريات في العصر الحديث، دكتاتورية ستالين الذي قتل الملايين من أبناء شعبه تحت شعار الثورة . والأمثلة لا تنتهي في مجال تأريخ الثورات .

إنه من السذاجة بمكان الاعتقاد بأن المرور من عقود، بل قرون، من أنفاق التعسف والظلم إلى رحاب الحرية والعدالة يمكن أن يحدث هكذا بين عشية وضحاها بمجرد تغيير رئيس أو حكومة أو نظام سياسي قائم .لا بد من مرحلة انتقالية قد تطول أو تقصر بحسب ظروف كل بلد وأوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والجيوبوليتيكية الخاصة . وما يحدث اليوم في بلدان الثورات العربية ما هو إلا مرحلة انتقالية لا بد من المرور بها مهما عظمت التضحيات وبهظت الأكلاف ووصلت الأوضاع إلى درجة بات كثيرون فيها نادمين على رحيل النظام القديم . ما يحدث هو في طبيعة الأشياء ومن ضرورات التغيير وهو صحي ومبارك ومدعاة للتفاؤل . ربما كان من قبيل التسرع إطلاق صفة الربيع على ما حصل في العام ،2011 لنقل أنه خريف الأنظمة البائدة يعقبه شتاء المرحلة الانتقالية قبل وصول الربيع الزاهر  بالعدالة والحرية . ما يحدث أمامنا أن الشعوب باتت تراقب الأنظمة والرؤساء والحكومات وتعبر من دون خوف أو وجل عن رفضها وامتعاضها . بل أنها تمنعهم من التفرد والتسلط وستكون حاضرة لمحاسبتهم عن طريق صناديق الاقتراع فتداول السلطة بات من المسلّمات أو يكاد .

لقد ارتكب الإسلاميون خطأً استراتيجياً فادحاً عندما سعوا للوصول إلى الحكم، ونجحوا في ذلك، غداة الثورات . فالكم الهائل المتراكم من المشكلات الموروثة أصعب من أن ينجحوا، هم وغيرهم، في التصدي له . وبذلك فإنهم وضعوا مصداقيتهم أمام امتحان عسير لن ينجحوا فيه على الأرجح . وقد بدأت تباشير إخفاقهم تبدو واضحة في الأفق . كان عليهم أن يتركوا لغيرهم التخبط في هذه الحبائل، لكن العطش للسلطة كان أقوى من الحكمة والتبصر .

الخليج