المختبئون خلف أصبعهم في نقد الثورة السورية .. والولادة من الخاصرة
د. حسن جبران
في المماثلة بين الجسد الفيزيولوجي والجسد الاجتماعي، المستمدة من أفكار هربرت سبنسر ومن بعده من المدرسة البنائية الوظيفية، فإن المعارضة السياسية مثل المواليد البشرية، كلما تقدمت الإنسانية نحو الأمام، اتسعت فسحة الأمل بمواليد من خارج الرحم إذا ما استحال الحمل الطبيعي فيه. وطبيعة الحياة السياسية المتوازنة تقتضي ولادةً طبيعية للمعارضة السياسية من داخل رحم المجتمع، ولكن أمراضاً سياسية متعددة أو حالة عقمٍ مزمن أو قراراتٍ متسلطة لمرضى عقد أوديب، تؤخر تلك الولادات أو تمانعها طويلاً. بيد أن الحمل السياسي والولادة آتيةٌ لا محالة لطالما ظل الأمل متقداً، حتى إذا كان المجتمع عقيماً أو بلغ من العمر عتياً، فأنت تستطيع…. إذا اعتقدت أنك تستطيع، والأمل ملح الحياة، فما يحدث الآن لا يعني نهاية التاريخ. وقد أكدت تجربة أطفال الأنابيب البشريين والسياسيين تلك الحقيقة، والهندسة الوراثية قد تُبشر بحياةٍ جديدة في عالم السياسة أيضاً.
لقد كان قدر المجتمع السوري أن تُجهد حمولاته السياسية والاجتماعية “الطبيعية” لحظة تشكل دولته في منتصف القرن المنصرم، حيث شهدت الحياة السياسية للدولة السورية الحديثة من لحظة تشكلها مع حكومة فيصل العام 1920 وحتى آلت إلى ما استقرت عليه بوصول حزب البعث للسلطة، تطوراتٍ ملحوظة تجلّت في الشروع في بناء البنية السياسية التحتية للدولة الحديثة من خلال حياةٍ برلمانيةٍ غنيّة، وفاعلية سياسية عبّرت عنها نشوء الجمعيات والأحزاب السياسية وممارساتها لأدورها في السلطة والمعارضة، وفاعلية مجتمعية نشطة أشارت لدور المكانة الاجتماعية الموروثة للعائلات التقليدية والتغير الاجتماعي المُعبِّر عن صعود فئات اجتماعية جديدة استفادت من آليات الدمج الحديثة في الدولة الوليدة، إضافةً إلى الحراك الاجتماعي لمختلف أشكال الاصطفاف الاجتماعي المُعبِّر عن بنية وتركيب المجتمع السوري.
فعلى مستوى الحياة البرلمانية شهد البرلمان السوري فاعلية سياسية ملحوظة فكان المؤتمر السوري الذي انعقد بدمشق في 7/6/1919 أول صيغة تشريعية تمثيلية في الفترة الزمنية القصيرة التي فصلت بين نهاية الاحتلال العثماني والانتداب الفرنسي. وتمخضت الساحة السياسية السورية بدورها عن ولادة أحزاب متعددة (حزب العهد -حزب الاستقلال العربي حزب التقدم – الحزب الحر المعتدل- حزب الشعب 1925- الكتلة الوطنية – عصبة العمل القومي1933- الحزب السوري القومي الاجتماعي 1947-الحزب الشيوعي السوري حزب الإخوان المسلمين 1944- حزب البعث العربي الاشتراكي). وقد شهدت دمشق نفسها منذ العام 1928 حتى العام 1934ما يزيد عن 25 حزباً.
ولكن وصول حزب البعث إلى السلطة ببزته العسكرية وبوطه الغليظ قد أجهض كل الحمولات الكائنة، وأمات معظم المواليد السياسية والتنظيمات الاجتماعية، وقزمّ الباقي بسقوفٍ أمنية منخفضة، فبدت مخلوقات غير طبيعة وغير فاعلة تدور في فلك الحزب الأوحد، ومداراتٍ سلطوية أمنية على مبدأ فرِّق وقزِّم… تسود. لقد جفت الحياة السياسية وتصحرت داخل الحزب المتسلط، فلم يستطع أن يُكمل “بعض منطلقاته النظرية” أو يجدد فيه وفي فكر الحزب وممارساته، فجفّت معها كل الأنهار التي كانت عامرة في سوريا.
بلغ اليأس مداه وظن الجميع أن عودة الروح للحياة السياسية في سوريا باتت مستحيلة، إلا أن الربيع العربي الذي أحيا العظام وهي رميم، قد فتح شهية الشعب السوري الجامح إلى التغيير نحو حملٍ سياسيٍ مأمول. بيد أن المجتمع السوري المجُهض في أكثر من عملية مؤلمة (حل النقابات والاعتداء على تنظيمات المجتمع المدني تقزيم الأحزاب السياسية بضمها إلى جبهة يقودها البعث أحداث الثمانينات ومرسوم 49 الذي يُتيح الإعدام على شبهة الانتماء لحزب الأخوان المسلمين….إلخ)، أنّى له أن يلد معارضةً صحيحة الحمل والولادة وسليمة الجسم والعقل!!!!
استبشر السوريون العُجزّ بولادةٍ طبيعيّة لمعارضتهم من المساجد والجامعات والشوارع والنقابات، من هموم الناس وآلامهم وتطلعاتهم ورؤاهم السياسية والاجتماعية مثل كل الولادات “المستحيلة!!!” في تونس ومصر واليمن وليبيا… ولكن خوف النظام الفرعوني من المولود الجديد، على غرار ما يرى ويسمع من مكانٍ قريب، وحرصه على قتل كل مولود، دفع أم المعارضة وحاضنها الاجتماعي أن تلد مولدها في الخفاء وعلى عجل، وأن تُلقي بمولدها الموسوي إلى يم السلاح أو فضاءات الغربة، أو ساحات التظاهر وزوايا التخفي من بطش نظامٍ مسعور يحرق البلاد ويقتل العباد. وفي النهاية ولدت المعارضة الموسوية رغم أنف فرعون كأنها تنينً أو سرطان، كلما جرحها أو آلمها أو قتل بعضً من أجزائها ازدادت انتشاراً وقوة ومناعة في جسده المتهالك.
وفي السياسة مثل الفيزيولوجيا، لا حياة للمواليد بلا رحم وأم، سواء أكان الرحم طبيعياً أو شبيهاً وسواء أكان الحاضن هو المجتمع السوري أم أمُ موسى التي أنقذت مولودها الضعيف من جنود فرعون الدائبين في البحث عن صرخة كل مولدٍ سياسيٍ جديد.
كل مولود يولد على ضعفٍ وفوضى وفطرة الطبيعة، فكيف إذا كان المولود السياسي أبواه (السلطة السياسية والمجتمع) في طلاق بائن ومزمن، وكانت ولادته ولادة قسرية وقيصرية!؟. إن نقد المولود السياسي السوري الجديد لضعفه وفوضويته، أو لبداية مراهقته، يُفضح رؤيةً تربويةً سياسيةً قاسية وظالمة ومبيّتة لأوصيائه الكثر، يسعون لحرمانه حق الحياة والميراث والرعايا. رؤيةٌ تستند إلى كشف عيوب اليتامى والمستضعفين وضربهم وتعنيفهم، عوضاً عن كفالتهم وهدايتهم وشد أزرهم، وعن علاقاتٍ إنسانية وقيم أخلاقيةٍ عالميةٍ هزيلة، ما زالت تقف مع الظالم القوي على المظلوم الضعيف من ذوي القربى وغيرهم، أو تنأى بنفسها عن فعل الواجب، تحت اعتبارات المصالح، لا القيم والمبادئ.
إن نقد المعارضة السورية السياسية وهي تعيش طفولتها وتنتقل إلى مراهقتها في سبيل الوصول إلى رشدها، يُعبر عن ضعف الناقد على الفعل السياسي لناحية دعم المعارضة وإرشادها، ولناحية العجز عن فعل شيء حيال نظامٍ سياسيٍ مستبد استفرد في إيذاء أبنائه وتلذذ في تعذيبهم بسادية الأب الذي ترتعد له الفرائص، كما في روايات نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم والطيب الصالح…إلخ، وكل الكتب السوسيولوجية التي تحلل النظام الأبوي البطركي العربي. أكثر مما يُعير عن ضعف معارضةٍ منطقي في خصوصية تشكلها، وعمرها الزمني القصير. بمعنى أن نقد المعارضة يُعبر عن عجز الناقد المراقب عن فعلٍ يقود إلى تغيير سلوك النظام الخاطئ، فكثرة النقد قلةٌ في الجهد. وأمام هذا العجز يختبئ الناقد المحلي والدولي وراء نقده لمعارضةٍ سوريةٍ وليدة، تتجه نحو رشدها على درب الآلام… ولكن دماء المسيح وآلامه وخشبة صلبه، كانت المداد لنوره الجديد ولو بعد حين.
ويختبئ الناقد أيضاً في حالة الثورة السورية الراهنة خلف مساواته بين المعارضة والثورة أو بين الثورة وانفعالاتها، فيسقط أمراض المعارضة وعيوبها ومن لبس لباسها، أو الانفعالات الثورية الطارئة (انفعالات ثوريٍ قتل أبناؤه أو انتهكت أعراضه أو حُرقت ممتلكاته أمامه وبحسٍ طائفي بارد أو مناطقي…إلخ، فرد بالمثل) على روح الثورة وجوهرها. وكما هو الفرق بين الدين ومعتنقيه، وبين الصناعة وسقطها. فالثورة أشبه بدينٍ جديد والمعارضة حامل اجتماعي لها. الثورة حقٌ والمعارضة رجالها، ولا يُعرف الحق بالرجال بل أعرف الثورة تعرف رجالها!!!. أفلم تعدم الثورة الفرنسية قائدها روبسبير، وامتطى جواد الثورة الجزائرية غير فرسانها.
وإن هذا الخلط المتعمّد بين الثورة وحاملها الاجتماعي المتعدد أو زبدها وانفعالاتها، يكشف بدوره عن عجز الناقد في دعم الثورة “الحق”، وُمختبئاً خلف جرح وتعديل رجالها أو انفعالاتها (عدم توحيد المعارضة معارضة الخارج والداخل وأجندتها الجراثيم المعارضة والحرافيش التسليح والعنف المحركات الأيديولوجية للثوار…إلخ)، ليبرر بذلك تقصيره أو محاربته الشرسة للثورة وشرعية وجودها.
وأمام الخلط بين الثورة والمعارضة، يتقدم أصدقاء الشعب السوري على استحياءٍ في دعم ثورته وبصوتٍ منخفض وخطى وئيدة ومترددة، وبقلبٍ مرتجف وعطاءات لا تغني ولا تسمن من جوع، ووعودٍ على بيادر الكمون ومواسم الانتخابات، تجنباً لضربات نقاد المعارضة ورموزها، أو حساباتٍ مكلفة، فيبدو الحق باطلاً أمام (أخطاء المعارضة وانفعالات الثورة من جهة ودعم الثورة الخجول من جهةٍ أخرى)، في حين يدعم أنصار الظلم حلفائهم بقوةٍ وصوت مرتفع، متسلحين بتلك النقطتين، فيبدو باطلهم حقاً يُبرر دعمه بالسلاح والرجال كما يفعل الروس والصينيون والإيرانيون وبعض الطائفيين من الثورة السورية!!!، وبين نقد الأصدقاء ومحاربة الخصوم وخصوصية ولادة المعارضة السورية، وفرعونية النظام وطغيانه، يدفع الشعب السوري وحيداً ثمناً باهظاً من رصيد الموت والاعتقال والتشرد والجراح والدمار.
لقد فضحت الثورة السورية كل شيء، وليس عبثاً أن يُطلق على الثورة السورية الراهنة في شعارات المتظاهرين ومقالات الكتّاب تعبير “الفاضحة”، التي فضحت النظام السياسي ومقولاته التاريخية واستناداته الإيديولوجية وجيشه وعقيدته وقوى أمنه ومثقفيه وأتباعه…إلخ. كما فضحت بعض قوى الداخل الصامتة والمتأرجحة بين فوبيا الخوف من غول الأمن وحماقة المستبد، ونفاقٍ يُجيّر الصمت فيه مع المنتصر على أنه موقف حكيم في زمن الجنون. وبعض الاصطفافات الاجتماعية المقيَّدة بانتماءاتٍ أقل من الدولة، وفضحت الكثير من النخب ورموزها والحياة الحزبية والتنظيمات المدنية والنقابية المحلية، وفضحت الجيران المقرّبين والأخوة العرب والمسلمين ودعاة الإنسانية والديموقراطية وحقوق الإنسان. وفضحت المؤسسات الدولية والمنظمات الإنسانية. لقد كانت الفاضحة للمنظومة الأخلاقية السياسية والاجتماعية للعالم، وبرهنت أن حق الفيتو في مجلس الأمن لواحدٍ من الكبار رغم الأكثرية، يٌعطل غالبية الإرادة الدولية في مكانٍ آخر من التنظيم العالمي “جمعيته العمومية”، ليبقى الفيتو اللعين أداةً في استمرار قتل النساء في بانياس وبابا عمرو، ومجاز الأطفال في الحولة والقبير والحفة…إلخ. وإراقة الدماء وهدر الكرامة الإنسانية في كل مدينة، وتدمير المنازل في كل الأماكن، وامتلاء السجون بأصوات ٍتنشد أبسط حقوقها في الحياة، ومعاقين ومشردين ولاجئين ويتامى…إلخ، يسألون في كل مرّة يدق ناقوس الحزن واليأس “لماذا”!؟.
لماذا يصمت العالم وينأى عن واجباته الأخلاقية حيال شعبٌ أراد الحياة، أراد ألا يرث أحداً سلطته إلى الأبد، وأن تُغلق السجون التي تُكمّ الأفواه، وأن يتحرر الناس من التقزّم السياسي والثقافي والإبداعي وغول الأمن وبوط العسكر والحزب الأوحد والأب القائد….إلخ، وتعود مياه الأنهار إلى مجاريها السياسية بعد عقودٍ من التصحر واليأس، فيتمتع الجميع بكل فصول السياسة وثمارها…إلخ. وإذا كانت إرادة التغيير السياسي فعلٌ ذاتي بامتياز في البلدان الديموقراطية ذات التاريخ السياسي العريق، فإنها يجب أن تكون كذلك في البلدان المثقلة بوطأة الديكتاتوريات، ولكن بقليلٍ من العون لمواليد جديدة: ضعيفة وفوضوية ومظلومة، إما بنصرة مظلومٍ أو ردّ ظالم… لقد فعل المجتمع السوري كل جهده في الربيع العربي، وأعلن عن إرادته وحلمه المشروع في التغيير بلا رجعة، وبقى على العالم والمسلمين والعرب والجوار والأخوة، أن يفعلوا واجبهم الأخلاقي، وإلا يتحول اليتيم السياسي المظلوم من طاقةٍ خيّرة رائعة، إلى نيرانٍ حارقة تصل شرارتها إلى من لم يحتسب!.
لقد كان قدر السوريين أن تلد دولتهم الحديثة على أنقاض السلطنة العثمانية ولادة قسريةً من خارج رحمها المجتمعي وفقاً لقراراتٍ خارجيةٍ، رسمت القوى العظمى حدود هويتها وما تبقى من حدود الجغرافية الطبيعية، بما يوفر مصالح تلك القوى يومئذٍ. وقدرهم أن تكون دولتهم ولدٌ معاق وعاق. وقدر السوريين اليوم أن تلد معارضتهم في الربيع العربي، ولادةً استثنائية داخل رحمٍ عجوز أو حملٍ هاجر أو رحمٍ بديل في ظروف القهر والديكتاتورية والتظاهر والحرب والدمار ورائحة الموت وصرخات الاستغاثة…إلخ. فهل قدر السوريين أيضاً أن يؤصل الفعل الثوري والمعارضة في صيغتها المثالية الآن تحت ضربات الأصدقاء الناقدين والأعداء الحاقدين، وأن تشتعل الحرب الباردة على أرضها من جديد، وأن يئن الشعب السوري تحت حسابات تعقيد المشهد السياسي الدولي الراهن، وتعقيدات الجغرافية والتاريخ والجيوبولتيك ومصالح اللاعبين الإقليميين الدوليين!؟…
كانت تقول أمي لأطفالها الجياع، كلما تأخر الطبخ على النار، كان الطعام ألذ وأطيب. وبعض الثمار تحتاج إلى وقت أطول للنضوج، فالزيتون يحتاج إلى وقتٍ أطول من غيره حتى ينضج، ولا يصبح زيتاً إلا بعد عصرٍ شديد الضغط يُخلّص به من سمومه…
ولكن ماذا يحدث إن لم يأكل الجياع بعد طول انتظار…؟