المدخل المحتوم إلى دويلات الإرهاب/ مطاع صفدي
إن عودة الفلسفي السياسي تُواجَه بمأزق النمذجة التفاضلية بين الاستحقاق الأنطولوجي الجينالوجي (التكويني) للهوي النقدي، وحامله الموضوعي المتمثل في راهنية العالمية التواصلية، وبين النكوص نحو أشكال تصنيم الهوية في أضيق صِيَغ التأحيد للأخصيات الثقافوية. فهناك دائماً دعاوى عريضة للكونيات، لكنها تنطوي على أضيق الأخصيات.
ومع التسليم بالعولمة كقدرية ميتافيزيقية لا مفر منها، فإن الهوية التصنيمية تعثر على إمبريالية السوق كحيز موضوعي وحيد، لإنتاج عالمية القولبة بدون قالب نهائي. فالصَوْنَمَة في هذه الحالة، سوف تقع على شكلانية القولبة، وليس على محتوى القوالب المفتعلة. والناس في عصر العولمة ينقلبون، وهم وراء حصونهم القوموية والعقائدية والدولتية، إلى مجرد كائنات (قابلّييّن) لمختلف عروض التنميط الفارطة، كفرط بضائع السوق بمعناها الدولي، والمصحوب بتدفق إعلام الصور والأصوات، ونمذجات الانفعال والسلوك والتعامل، وحتى التفكير، باعتبارها أمست مجرد موضات استهلاكية متشابكة مع أحدث بضائع الأشياء الاستهلاكية العرضية، والناشرة لتماثلية عالم عَرَضي فوري. فإن خاصية العمومي تزيّف أقنوم الكينوني. وما هو الأحدث حالياً في العرض والنشر والتوزيع من أشباه الأشياء والأفكار والأحوال الشخصانية، إنما يغذي عصبيات التفريع والتشرذم حول أضعف المرجعيات الناتئة العارضة. فالأديان الكبرى في العالم الموصوف بالمتقدم، من أوروبا إلى أمريكا، تنفرط عقائدها إلى طوائفيات غرائبية من فئويات وإخوانيات وباطنيات دنيوية أكثر منها دينية، ومنطوية على شرعنات وطقسنات في التحريم والتقديس، والسلوكيات الشعائرية الموصوفة بحدثنة السحر والشعوذة، ويخترعها ويتزعمها أشخاص بارعون في استنباط وتنميط الغرائبيات، ويتظاهرون بالتمتع بسلطات روحانية وماورائية، شرقية أو بدائية؛ ولكنها سريعة الظهور والزوال.
في حين أن انفراط التصنيم الهووي في العالم الثالث بخاصة، ومنه المجال العربي والإسلامي، لا يزال يتعلق بالنمذجة التفاضلية للانتماءات الأقوامية بل القبلية. ولم يستطع مفهوم المواطنة التقدم على الديني والإثني واللغوي وحتى المحلي، وما دام الفرد لم يفز بَعْدُ، بقوام استقلاله المدني والإنساني. فالجمعاني، تحت أية مرجعية من بقايا الأصول المتوارثة، قد يجدد سلطته اللاواعية عبر أية التصاقات بعناوين حداثوية، كالتسميات الحزبية أو الثقافوية. كل ذلك يجري في ظل نوعية خاصة من الدولة/الأمة، المستحدثة في حقبة الاستعمار الغربي، والمستمرة طيلة تقلبات فترات التحرير الملتبسة، وبناء الاستقلال الوطني، مع انطلاق صراعات العنف الجمعاني الداخلي، المنظم داخل الجيوش بخاصة، أو المقنَّع بالتيارات الإيديولوجية المستحدثة والمجلوبة بعدوى الانتشار العالمي، والذيوع الإعلامي للأفكار وأنماط الصراعات السياسوية الوافدة. وقد كانت أن استهلكت هذه التطورات العبثية سريعاً، لكي تنبعث النزعات السلفية في ساحات خلاء، لا منافس فيها يتصدى لها بقوة العصر وحدها على الأقل.
في هذا السياق يمكن التفكير عربياً أن نموذج الدولة/الأمة، كان حدثاً صدفوياً طارئاً ولا يزال. وتاريخه مرتبط بالغزو الاستعماري المباشر. فليس هو بالوليد التاريخي النابع من تطور الجماعات العربية والإسلامية المتناثرة في مدن الضواحي الصحراوية أو السواحل البحرية، النهرية. ولقد حملت معظم الدول المستحدثة أسماءَ الجهات الجغرافية أو الإقليمية، التي رسمتها لها خارطةُ الغزاة الاستعماريين. ومع ذلك قامت هذه السلطة الطارئة بارتداء الخصائص الوطنية بعد التحرر السياسي، ومارست طابع الإرادوية الخالصة لبناء أقطارها، بحسب أساليب التنمية الوافدة مع هيئات الأمم المتحدة، عقبَ انتهاءِ الحرب العالمية الثانية. ثم تتابعت بعدها مع موجات عارمة من رجال الأعمال وسماسرتهم. فيمكن اعتبار موجة الدولة/الأمة التي سادت مختلف أقطار آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية خلال مرحلة التحرر الوطني، بمثابة الجيل الثاني المعاصر، من سلالة الحداثة الدولتية، المؤسَّسة أصلاً في صلب التطور الغربي. وفي حين استطاعت موجة الدولة/الأمة تمزيقَ الهوية القومية للغرب مرحلياً أو موقتاً، وحاولت أن تبني من الجنسيات الجغرافية ثقافوياتٍ جهويةً، متطلعة إلى تثبيت أشباه كيانات اعتبارية، منغلقة على أنماط سلطاتها الحاكمة وغالفة لحدود شعوبها الإنسانية والمجتمعية فيما بينها، فإنها تكون بذلك قد عكست حركة التطور الهُوويّ الغربي. فسارت زمنياً، أو أُجبرت على السير، من هُويّ الأمة الواحدة، العضوي والتاريخي، إلى صيغة الجنسيات الجغرافية، وتفريخ أقواميات جهوية منها فحسب، أو اعتبارية ذات هيكليات دستورية وقانونية متفاصلة عن بعضها، ومتمايزة بسلطات وحكومات معترف بها من قبل المجتمع الدولي. ومن هذا الاعتراف الخارجاني تستمدّ قطريات الدولة/الأمة نوعاً من مشروعية سياسوية، مفتقرة أصلاً إلى مضامين الحداثة المواطنية بمكتسباتها المجتمعية النضالية الثلاثة، ونعني بها الحقوق المدنية، فالسياسية، فالاجتماعية. فالدولة/الأمة العالمثالثية، والعربية في مقدمتها، ابتدأت بالاستقلال السياسي الدولاني، وتوقفت عنده؛ استعصى عليها التقدم من مكسب حرية الدولة تجاه الغير نسبياً، إلى حريات الأفراد تجاه دولتهم، وفيما بينهم. وعلى هذا الأساس لا يمكن المضاهاة بين الشخصية المفهومية لشكل الدولة/الأمة السابقة غربياً، وتلك التي عجزت عن إنتاجها شكلانيةُ الجيل الأخير من نموذج الدولة/الأمة العالمثالثية، والعربية على الخصوص.
إن صيغة عالم عربي، متوزّع بين أكثر من عشرين كيانا دولتيا، تكرر ذاتَ نموذجِ شكلانية الدولة/الأمة سياسوياً، ولكن بدون مضمون المواطنة المدنية ومكتسباتها من الإنسانية الحقوقية، ما أدى إلى تضاعف التعارض البنيوي بين الانتماء الإتني التلقائي للجماهير وبين تبعيتها للتسلط السياسوي على القمم القطرية، المرتدة إلى إفراز عنصريات القومويات المحلية، وهذه بدورها تفرّخ أضيق العصبيات الأهلية والعقائدية، من ديناويات وطائفيات. فالانغلاق نحو الأضيق في عصر الانفتاحات الأوسع والأكبر، هو المميز الوحيد لتعددية ثقافوية سالبة، وعادمة لإمكانيات التنوع المتكامل.
إن مأزق الجيل العالمثالثي مع نموذج الدولة الأمة، لا يتمثل فقط في الأصل اللاتاريخي الذي تحدرت منه معظم الكيانات الدولتية القائمة منذ عهود الاستعمار الغربي، والمستمرة إلى المرحلة الموصوفة بنشأة الاستقلالات الوطنية، لا يتأتى المأزق كذلك فقط من غربة هَيْكَلة الدولة/الأمة عن السياق التاريخي للوضع اللاهووي، واللاقومي الذي كانت عليه الأممُ الُمسْتَتْبعة داخل إطار الإمبراطورية اللاهوتية المتحدرة من القروسطية والسابقة على تشكيل الدولة الحديثة إجمالاً؛ وهي السلطنة العثمانية، بالنسبة للحالة العربية؛ بل إن كل ذلك قد يشكل أسس المأزق التكويني لدول الكيانات المتقاسمة للأمة التاريخية؛ الخارجة من إطار الإمبراطورية اللاهوتية أولاً، والمتحررة ثانياً من حقبة الاحتلال الغربي حديثاً. لكن المأزق الحقيقي هو في هذا التكوين الالتصاقي لقوام الأمة المحرومة من دولتها الوطنية المستقلة عصوراً طويلة من الانحطاط الحضاري؛ التصاق بالتحقيب الغربي الذي تكونت عبره تاريخانية الدولة/الأمة؛ واجتازت عبره رحلةَ الانتقالات أو القطيعات، ما بين عصور الهوايا المفارقة (الغيبية)، ثم الهوايا التصنيمية (الرومانسية)، ثم الهوايا الإيديولوجية الكليانية، وكلها أعمار حقيقية لتحولات الدولة/الأمة، الصانعة لمسلسل من الشخصيات المفهومية لمجتمعاتها. وصولاً أخيراً إلى عصر المدنية الوطنية في ظل الرعاية الشاملة.
لكن نموذج الدولة/الأمة في جيلها العالمثالثي المستحدث، والعربي والإسلامي على الخصوص، يبلغ راهنياً ذروة مأزقه التكويني. ولا يتجلى ذلك فقط في فشل تجربته الممتدة طيلة النصف الثاني من القرن العشرين، وعجزه عن إنتاج شخصيته المفهومية الواعية لإشكالية الوصل والفصل مع تحقيب المشروع الثقافي الغربي، بل في تحول ارتدادي لنموذج الدولة/الأمة نحو تَصْنَمَوية السلطة الفوقية، وانصبابها في قولبة الإرادوية المطلقة، المنفصلة رأسياً عن شعوبها، وأفقياً عن راهنية العصر العالمي حولها. فهي أقرب ما تكون إلى إطلاقية الملكيات غير الدستورية السابقة على الشروع في إنجاز التحقيب الحقوقي، حسب إيقاع الحقوق المدنية فالسياسية فالاجتماعية. بل عاشت نمذجة الدولة/الأمة هذه، على رأسمال ترميزي مكتسب من جدلية التحرر/التبعية تلقاء القوى السياسية الدولية، والغربية ثم الأمريكية ثم الصهيونية الإقليمية الوافدة، والتي كان بعضها، من الحقبة الأوربية، هو صاحب هذا النمط من اصطناع الدولة الهجينة، ما جعلها محتاجة إلى اختراع هوايا ذات صبغة جغرافية جهوية خالصة، محتاجة إلى تبرير سلطاتها المطلقة المستمدة من القوى العسكرية أو القبلية أو الطائفية، بمشروعية الأمر الواقع المفروض وحده.
لكن هِجانة هذا النمط من الدولة المفترض أنها صانعة أُمَـمَها الإقليميةَ الجديدة، تقف تماماً على طرف نقيض، في عصر الهُوي النقدي، مع توجّه الدول القارية، مثل أوروبا وأمريكا، نحو صيغة الوحدة القائمة على سرعتين: الاعتراف بالدولة القومية وخصوصياتها من جهة، وبناء الاتحاد الدستوري الشامل لتعددياتها الثقافوية.
في حين أن الدولة العربية القطرية تجيء ضداً على الوحدة التلقائية للأمة التاريخية من جهة، وتعمل على إفراز أقواميات الأقطار المتفاضلة المتناحرة. ما يتعارض كذلك في الوقت نفسه مع حركة الدولة العصرية الآتية من تعددية الأقوام التاريخية، المتفاصلة والمتمايزة ما بين موروثاتها، ولكن المتجهة نحو المتحدات الدستورية الكبرى، تحت إيقاع الانتماء المتناظر إلى نفس التحقيب المنتِج للحداثة السياسية، والمحقِّق لأفضلية المشاركة في إنضاج ثمرات المدنية وإبداعية التمتع بها، لأفضليتها تلك على ميراث الهوية التصنيمية ذات الأصول العرقية فحسب.
٭ مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي