المدينة إذ يحرقها الهجر/ سامي داوود
عام 2003. في صالة أتاسي بدمشق. قدَّم الفنان نذير نبعة أعماله التجريدية “تجليات” التي كانت صدمة لكل من كان معتادا على الواقعية السحرية التي أبدعَ فيها نبعة لسنوات. حينذاك كتبت مادة نقدية بعنوان “اللامتعين أو ممكنات العمق الداخلي في تجليات نذير نبعة”. كنت حينها أجتهد لتجريد النقد التشكيلي من شوائبه غير المجدية. وطبقت ما توصلت إليه على معرض تجليات. تجريد مطلق في غياب الموضوع. رفضت حينها هذه الفكرة كونها خاطئة ومعممة بغير فهم. بعد أسبوعين أخبرني “ماهر” المشرف في غاليري أتاسي أن نذير نبعة يبحث عني ومنحني ورقة عليها أرقام تلفونه. اتصلت بنبعة. كان أول ما أخبرني به بأنه قرأ ما كتبته عن أعماله وأنني عملت كعالم آثار داخل لوحاته التي مرَّ عليها البقية كسائحين. زرته بعد أيام واشترطت عليه أن نكون لوحدنا. شقته القائمة في بناءٍ بالجسر الأبيض. منفتحة على السماء بالملحق الذي حولته زوجته شلبية إلى حديقة معلقة صغيرة. جاءت الكاتبة “ناديا خوست” على غير موعد. لكنها لم تطل المكوث. أمسك نبعة يدي وأخذني إلى مكتبته و قال: “أنظر هذه هي مقالتك لوحدها على طرف. وبقية ما كتب عني على طرف آخر… أنا أعول عليك. وأنت قادر على إحداث الفرق الكبير”. وبعدها وجدته يدعمني في مؤسسات فنية أخرى كانت تتفاجأ باسمي عندما أذكره. إذ كان شكلي الصبياني الذي لم أستطع تعديله بلحية ضعيفة يجعلهم يتفاجأون.
إلا أنني تركت سورية التي يجعلنا البعد عنها أشبه بلطخة دمٍ مذعور في قميص الآخرين.
” دمشق هي أمي. والقاهرة هي حبيبتي” هكذا أخبرني حينما تحدثنا عن علاقته بالقاهرة التي درس فيها على يد أستاذه الفنان المصري حسين بيكار. لذا شكَّلَ موت نذير نبعة في سورية المدمرة رمزية مضاعفة. فقد كان بإمكانه أن يحزم حقائبه ويستقر في مكان آخر. إلّا أنَّه آثر المكوث في دمشق التي كانت مهده ولحده.
ما الذي سيتبقى من سورية المندثرة أرضاً وبشراً بالفقدان المركب الذي يشكله موت نخبتها
” المبدعة غير المعوَّض بتراكم الخبرات الإبداعية في بيئة مستقرة. إلى جانب تشتت إنسانها في المنافي، وتحول البقية الأخرى إلى جنودٍ للموت. سورية اليوم يوتوبيا معلقة كتعويذة متروكة في الأنقاض الصامتة.
للمدن سيرتها المروية في سير قاطنيها. تتألق و تندثرُ بمآلاتها. وموت نبعة في دمشق محكية رمزية لسورية التي بعثرها الخراب مثل خرزٍ زجاجيٍ مكسور. أية أوهام يمكننا أن نتمسك بها الآن لنقلل بها هول الخسارة الإبداعية التي لا تعوضها مشاريع إعادة الإعمار. في وقتٍ توزَّع فيه الكثير من الأقلام على الجبهات المؤدلجة وظهر على إثر ذلك، مشهدٌ مشوه من الكتاب والصحافيين الذين يدقون الإسفين في الكراهية المحتربة على الحلبة السورية.
قبل عام اجتمعت في بيروت بالتشكيلي إدوارد شهدا الذي كان قادما من دمشق. طلب مني العودة للتفاعل مع الحركة الثقافية في دمشق. حيث يشكل الاجتماع في بيت نذير نبعة صالونا خاصا لتبادل المعرفة والمحبة. بيته/ مرسمه كنافذة نطلُّ من خلالها على أنفسنا. نتأمل مثل مرآة مهشمة في تشققاتنا. لربما ننتشل نزعتنا الإنسانية من براثن هذا الكائن الدموي الذي يفتك بالإنسان في سورية. والسبيل الوحيد إلى ذلك هو إنتاج شيء من الوحدة السيكولوجية عبر فن وأدب وكر غير ملوث بالدوغما الحربية. يدعم إنتاج لغة ذهنية مشتركة ومعابر آمنة إلى بعضنا البعض. تماما مثلما حدث في بداية ظهور المدينة السورية في نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد. تلك المدينة التي ظهرت بعد الانسياح البشري الكبير الذي حدث في منطقة ميزوبوتاميا والبحر الأيجي. وعلى الأطراف المتنازعة للمدينة السومرية والفرعونية.
التجلي ولادة المتعيّن
“كانت مبهرة مشاهد الطبيعة البدائية التي تجلَّت في “تجليات” الفنان نذير نبعة، ضمن معرضه الذي أقامه في صالة أتاسي بدمشق. إلّا أنَّ الانبهار كلمة رثائية للشعور، فاللوحة بتأثيراتها العاطفية التي يكونها التوزيع اللوني والتداخل الكائن بين الشكل والفراغ المحيط به، يؤدي إلى ما يسمى بحالة «الاندماج العاطفي» التي تجرد المتلقي من ملكته النقدية والتحليلية. لذلك سأتناول تجربة «تجليات» للفنان الكبير نذير نبعة بتحليل المستوى التكويني لتجريديات “تجليات” بما يمكننا من تقريب العلاقة أو الفهم لهذه المواضيع المشرعة على احتمالاتها اللانهائية، وليست الغائبة.
لكي نبدأ بدراسة معرض «تجليات»، يتوجب علينا أن نضع في الحسبان، بأن «تجليات» ليست عرضاً لمجموعة لوحات تقدم مشهداً طبيعياً ينتهي عند الحواف بالمعنى التقليدي للوحة التشكيلية. إذ الهدف هنا ليس تقديم معنى معين أو سرد لعلاقة مختلفة مع الطبيعة، بل إيصال المتلقي إلى إحساس جمالي جديد يمنحه القدرة على توسيع مقدرته التخيلية أو تحفيز مخيلته التصويرية، للإمساك بتلك الأشكال الكامنة في العمق الداخلي للطبيعة الثانية، التي تمثل اللوحة نموذجها البلاستيكي. فالفن بتعبير سيزان: «هو خلق نسق على غرار الطبيعة». وهذا النسق الآخر من الطبيعة التي جسدها الفنان نبعة في أعماله الجديدة، ليست من قبيل المحاكاة لتلك الصخور القديمة المتموضعة كأشكال تختزل السيرة الذاتية للعوالم المتلاشية في جبال اللاذقية، والتي كانت ملاذاً رحباً لريشته وألوانه، بل هو البحث عن روعة الفن في مصدره البدائي (أي الطبيعة) في أي مكان يختزن جمالياته”.
إن عدم تعيّن موضوع محدد الأبعاد الشكلية في لوحات المعرض، لا يعني قطعاً اللاموضوع، أو نفياً مطلقاً للموضوع، أي تقديم تجريدات لا تعبر عن شي معين، ولا تعبر عن نفسها كأشياء متموضعة بعفوية اللون والشكل.
لأننا بهذه الرؤية سنكون قد حكمنا على معرض التجليات بالفشل، لأن الوظيفة الفنية كإمكانية ستكون مستحيلة. إن ما يمكننا من قراءة لوحات المعرض، هو هذا اللاتعيين للموضوع، فالأشكال موجودة بكثرة متداخلة، مبعثرة. وهذا لا يعني تبذيراً مفرطاً في الشكل أو تفكيكاً للمشهد، لأن التوزيع اللوني لكل لوحة، المكونة من درجات اللون وجلائه وظلاله والمسحات البيضاء وعمليات التلطيف اللونية، كلها تتآزر مع التنسيقات الخفية بين الخطوط وتقاطعاتها، وبين البروز الحجري وتقهقره كأخدود صغير أو كفجوة…الخ. كلها تعبر في عفوية عن التركيب الدقيق للوحات المعرض. تتآلف هذه التفاصيل الحسية لتخلق مع استجابة المتلقي وسياقه المعرفي والجمالي الخاص به، شكلاً دالاً مكوناً للعالم الذي يشيده المتلقي على نحو فردي. وهكذا تتحول اللوحة إلى نافذة المتلقي لمواجهة عالمه الذي تمكنه اللوحة من رؤيته عبر مجموعة من الخطوط والتموضعات الشكلية واللونية.
هكذا أراد الفنان نذير نبعة لمتلقيه أن يكون حراً في الرؤية، ليس في إقصائه للشكل/ الموضوع،
” بل بعرضه لممكنات الشكل. فالتجلي هو الظهور عبر السديم، واللوحة هي النافذة لرؤية هذا الظهور الخفي للموضوع، الذي يبقى كإمكان يولد في كل لحظة تواجهه عين ممعنة بعمق ـ مع الأخذ في الاعتبار الاختلافات بين مواقع الرؤية ـ وقادرة على خلق تنسيقات ممكنة بين الصخور والتخثرات والأشكال غير المنمذجة، حتى يستقر الشكل الذي يبقى ممزوجاً ومهدماً قبل الرؤية، وعندئذ يصبح الشكل محدداً ومركزياً ومنفصلاً عن الأشكال الأخرى التي تشوش النظام في اللوحة.
الموضوع هنا مختبئ في القسمات اللامحدودة للإيحاءات الحيوانية والإنسانية في المملكة النباتية الحجرية، والمتلقي هو الذي يخلق لها حضورها الذي ينبض بالحياة، ذاك الحضور الموجود مسبقاً كإمكان. إن تجليات نذير نبعة، هي تجربة لتقديم علاقة جديدة مع المتلقي الفعّال غير المندمج عاطفياً في اللوحة. أي أنه يتوصل عبر الرؤية الممعنة إلى الإمساك بأحدى ممكنات اللوحة؛ إحدى العوالم المنبثقة من العمق الداخلي للقسمات الحجرية.
العربي الجديد