المدينة الأكثر غرابةً… دمشق/ زينة قنواتي
أسافرُ إلى دمشق كثيراً وأُصاب بالدهشة في كل زيارة جديدة. دهشتي تصيبني بالصمت. ولكنني اليوم قررتُ أن أكتب عن دمشق، المكان الخيالي الذي لا يشبه مكاناً رأيته من قبل، كل شيء هناك أكثر غرابة مما ينبغي، أرتشف قهوتي الصباحية وأنا أنصتُ لتغريد العصافير الممتع، يوقظني أبي من متعتي، حتى العصافير نزحت لهون، ما عاد في غوطة وتقرر أمي أن علينا زيارة صديقاتها في حي الشعلان قرب منزلنا، وفي الطريق تهطل فوقنا قذيفة أو اثنتان، يهرول البعض، ويختبئ آخرون، البعض يبقى واثق الخطوة دون اهتزاز تماماً كأمي، وأضطر أنا وأولادي أن نسير مثلها بهدوء وأن نقلد عدم اكتراثها بشيء، عادية ما في شي بخوف.
نزور جدتي في حي القصّاع وهي الزيارة المفضلة عندي عاطفياً والمكروهة مناطقياً، فضجيج القصف لا يهدأ هناك، ترتج الأبنية بسكانها، والطائرات الحربية لا تمل اختراق حواجز الصوت والصمت في آن واحد.
لزيارة جدتي طعم مختلط بين الشعور بالأمان والشعور بالخوف، الخوف من الموت المحيط بك، الخوف من ازدحام الأرواح المرتفعة معاً، ومن اختناق الأجساد أسفل الركام، تقول جدتي: إيييييييه تعودنا، ويعتقدون أنهم تعودوا وأرى فيهم جميعاً شيئاً واحداً.. هم اعتادوا عدم الاعتياد، اعتادوا أن يكونوا هنا، حيث اللا منطق يقود الجميع نحو استقرار من نوع مختلف، الاستقرار في وطن خاضع لقوانين الحرب العبثية، اليوم ما في مي زينة، تقول أمي، وأطمئنها بجملة معتادة أواجه بها كل مخاوفي، مو مشكلة، ويتدخل أبي غير راضٍ عن جوابي، وبكرا كمان والله بيعلم إيمتى بتجي، وأقول أيضاً، مو فارق معنا، وأشعر بحاجتي الماسة لترف الحياة ولأبسط متعها، الماء المتدفق لأغسل يدي وشعري، لأغسل وجوه أطفالي، وأتذكر ترفي عندما قررت تغيير مدرسة ابني لأنهم لا يغسلون أيادي الأطفال قبل تناول الطعام الماء في دمشق شحيح ككل شيء. الموارد ضعيفة والحياة تنجو من موتها كل يوم، ويستيقظ الجميع على أمل، هم المترفون لأنهم يعيشون في دمشق، لا يتكلمون عما يصادفهم كل يوم، فأصوات الظلام التي عمت سورية تسكتهم جميعاً. وفي احترام بقائهم وفناء الآخرين يحجمون عن الإفصاح عما أصابهم، “أنتوا أهل الشام مو حاسين بشي، لولاكون ما كنا وصلنا هون”، يقول أحد الأصدقاء الذي لم يزر سورية منذ عشرات السنين، وأفضل الصمت.
عن أهل دمشق يطول الحديث، يتألمون بصمت، ويناضلون بصمت، ويصيبهم ألم المحيط بعجز عن التعبير، ما من قوة يمكنها أن تكتم صرخات المتألمين، تتوالى الأخبار المؤلمة ويزداد الاختفاء، البعض يختفي قسراً والبعض يختفي عمداً ولا يزداد شيء كما يزداد عدد المسافرين، يرحلون عنها ويتركون البقية، البقية هم من بقي في دمشق طوعاً، وهم الصامدون كما يجوز التعبير، الصامدون في وجه الموت والنزوح والاعتقال وأمواج المغادرين ونثرات الزجاج المكسور عند كل ناصية، الصامدون يتواطؤون فيما بينهم على البقاء، ويتمكنون في نهاية كل نهار أن يتواطؤوا على السعادة، هم اليوم أحياء في مكان لا يشبه مكاناً آخر، المنطقة البيضاء الملطخة بأصوات من رحلوا، المخضبة بأرواح من صعدوا، والمنتظرة.. المنتظرة دائماً لمن غابوا وتغيبوا. “ما حدا بيعرف شو رح يصير”، تقول ماما. “كل يوم ستي عادي”، يجيب أبي. ويستمر الضجيج ويختفي كل صوت إلا صوت القصف العنيد، لا يتوقف حتى عندما يصمت، تسمعه دون أن تدرك أنه لم يعد حقيقة، هو عصف ذهني لما مرَّ وما سيأتي.
العربي الجديد