المرأة والأمثال الشعبية، التصالح مع الذاكرة/ ضحى عاشور
“اللي عنده معزة يربطها” والمقصود هنا المرأة، بل الطفلة ذات السنوات السبع. وفي التفاصيل، أن شجاراً وقع بين والدة الطفلة ووالد زميلها الذي “قبلّها” في المدرسة. ما أسفر عن تهديد والدتها بإرسال ابنها الأكبر ليضرب زميل ابنتها وذلك على مجموعة “واتس أب” خاصة بأولياء الأمور، ليرّد والد التلميذ “ابني ولد يبوس زي ما هو عايز، واللي عنده معزة يربطها”.
هذه احدى القصص التي تناولتها الصحافة في مصر في آذار الفائت. الواقعة عصرية جداً، وسلوك التلميذين كذلك، رغم أنه أقرب للسلوك الفطري، فقط حوار “أولياء الأمور” وطريقتهما في التعاطي مع بعضهما ومع تصرف الأولاد يعيدنا إلى العصر الحجري. الأنثى تشتكي وتهدد وتتوعد ملوحة بعضلات ابنها الذكر، والذكر أبو الصبي ينتصر عليها بجملتين مذخرتين بسطوة الموروث ورهبته.
القدرات الخفية للأمثال الشعبية
تُعتبر الأمثال الشعبية نوعاً من العرف الاجتماعي العام الذي ينظم علاقات البشر وحاجاتتهم ومصالحهم، وللعرف قوة تضاهي ما تملكه الدساتير والقوانين لأسباب كثيرة أبرزها ما توحي به من اختزانها لصفوة التجربة البشرية والحكمة الانسانية المتراكمة المجموعتين في ما يسمى موروث الأجداد الذي استحق مكانة المثل أي قيمة عليا نهائية مكتملة بذاتها. “اللي يجرب المجرب عقلو مخرب” هكذا يحكم المثل على أي محاولة لمساءلة الموروث رغم تغير الزمان والمكان والبشر، فالنتيجة ستظل نفسها، اختبرها الأولون وليس على اللاحقين إلا الامتثال.
كما تضفي صفة الشعبية رهبة خاصة على الأمثال مستمدة من صلابة الإرادة الشعبية المتوافقة (حيث الشعب مصدر التشريع).
في ردّها على سؤال: من الذي أنتج الأمثال المعنفة والمحقرة للمرأة؟ تقول الدكتورة نبيلة ابراهيم المتخصصة بالأدب الشعبي في جامعة القاهرة “هذا أدب شعبي موروث اشترك في صنعه وقوله المرأة والرجل والطفل وكل المجتمع..”. يستطيع القارئ غير المختص أن يلاحظ أولاً أن مفهوم الشعب هنا هو مفهوم فضفاض (يقترب من مفهوم السكان) حيث يختلط فيه الغني والفقير والكبير والطفل والمتعلم والأميّ ورجل الدين مع السياسي والمرأة بتنوع مواقعها وانتماءاتها … الخ وبالتالي هل يعقل أن كل هؤلاء ساهموا في انتاج الأمثال وعلى قدر المساواة وبالإجماع ذاته؟
هذا ما يقود إلى الملاحظة الثانية: وهي ضرورة التمييز بين المُنتج والمالك أو الممول وبين العاملين في حقل الإنتاج وبينهما وبين المستهلكين في أي عملية إنتاج مادية أو فكرية، رغم تداخل هذه المستويات أحياناً، كما هو الحال في منتج مثل الأمثال الشعبية التي هي بطبيعتها شفهية ومتناقلة ما يجعلها عرضة للقِدم والاهتراء والترقيع والحذف والإضافة. هذا التمييز اللازم ثالثاً لإدارك المصالح والغايات الكامنة وراء الأمثال الشعبية واستمرار تأثيرها على حاضرنا. فما هي مصلحة المرأة في انتاج مقولة “البنت تجيب العار والمعيار وتدخل العدو للدار” أو “عقربتين على الحيط ولا بنتين في البيت” وما غايتها من استيراد أقوال وحكم من الغرب والشرق لإدانة نفسها كالمثل الألماني “السيف والزوجة لا تثق بأحدهما على الإطلاق”، أو المثل الانكليزي “من ملك امرأة ملك ثعباناُ”.. وما مصلحة عموم الرجال في أن يتقاسموا السرير مع ثعبان لينجبوا منه عقارب يمضون حياتهم في رعايتها وتكبيرها وحمل همها إلى الممات؟!
في النظر إلى الأمثال بمجملها، تنبغي ملاحظة الأمثال التمييزية والتحقيرية للآخر بكل تنوعاته الشكلية والجسدية والإثنية والطائفية والمناطقية. والتي تشير إلى مسؤولية فاعلين أخصائيين في اختراع الأعداء وشيطنة الآخرين بحيث يسهل السيطرة على الجماعات ورص صفوفها بمواجهة أعداء متربصين داخليين وخارجيين. إنها طرق السلطة الاستبدادية الذكورية في الهيمنة عبر مؤسساتها الدينية والإعلامية والتعليمية وملحقاتهم.
تأنيث اللغة، وحملة “أنتِ المثل”
إن تأنيث اللغة، وهو موضوع الملف، لا يمكن أن يتناول المبنى (اللفظ) على أهميته بمعزل عن المعنى. الأمر الذي يتطلب مكاشفة ومصارحة اجتماعية وتقصي حقائق حول الذاكرة الجمعية بتجلياتها المختلفة والعمل على فرز وتصنيف الأمثال الشعبية عن الأقوال السلبية والأحكام التمييزية، وارسال الأخيرتين منها إلى كتب التاريخ حيث مكانهما الطبيعي. وهو أقل ما يمكن فعله لإنصاف الضحايا وجبر خواطرهم وردّ الاعتبار لوجودهم وحقوقهم المتعاقد عليها في دساتير يعترف معظمها بالمساواة بين البشر. ولعل أفكار أخرى ممكنة مثل تغيير العبارات أو السخرية منها وصولاً إلى تفعيل تشريعات عقابية تحت بنود القذف والشتم والتحقير يمكن أن تكون رادعاً عند الحاجة.
في مصر، كانت حملة “أنتِ المثل” خطوة على طريق تطهير الذاكرة المثقلة بخرافات وأوهام مولدة للكراهية، حيث جمعوا ستين مثلاً تم عرضهم على شاشات كبيرة ليشيروا إلى التناقض التناحري المدمر بين صورة المرأة في الذاكرة الجمعية وبين حقيقة وجودها الواقعي في انحياز واضح واعتذار يقول لها: أنتِ المثل وليس ذاك المحاط بقداسة الأصول والموروث الشعبي.
مبادرات متفرقة لن تزيل تراكمات تاريخ يسيل على اللسان ويجري عفو الخاطر، لكنها مؤشر على إرادة حرة تشق طريقها للتخفف من أعباء ذاكرة عنف تنهش أعمارنا وتغتال أكثر لحظاتنا حميمية.
شبكة الصحافيات السوريات