المركز الثقافي هو حاسوبك/ عبد الرحيم الخصار
كنت أقول دائما إن التاريخ الحقيقي للعالم ينقسم إلى مرحلتين مهمتين هما ما قبل الكهرباء، وما بعد الكهرباء، غير آبه بعصر ما قبل الكامبري والأسرات وما بعدهما، أو بالعصور الموزعة على الأحجار والمعادن (الحجري، البرونزي، الحديدي)، أو بعصور الزو (الصين) والكوفون (اليابان)، فكل ذلك لم يعد يعنينا بشكل مباشر نحن الذين ننتمي إلى اللحظة الراهنة، إذ تفصلنا عن تلك التواريخ عقود وقرون لا حصر لها.
إن أبحاث بنيامين فرانكلين ومايكل فراداي وتوماس أديسون وغيرهم من علماء القارة العجوز جعلت العالم يغير مساره بالكامل، ويتحول من تلك المشية السلحفاتية التي قضى فيها آلاف السنين إلى مشية جديدة نحت بالتدريج إلى أن تصير تحليقا بسرعة قياسية وفي زمن مكثف. كل ذلك وقع بسبب الثورة التاريخية التي يمكن أن نسميها ثورة الكهرباء. وكل الانتقالات العلمية والتقنية ومعها سبل الرفاهية الحديثة مدينة بالضرورة لهذه الثورة.
غير أني ومنذ اللحظات الأخيرة في القرن الماضي صرت أضيف حقبة جديدة زاد فيها وبشكل مذهل إيقاع حركة العالم، وتطورت أكثر وإلى حد مخيف أشكال تواصله، وصار من الضروري أن نتحدث عن مرحلتين جديدتين هما: ما قبل الأنترنت، وما بعد الأنترنت.
منذ مطلع الستينيات وصل هاجس الانترنت إلى هذا الكوكب، كان الأمر تجريبيا في البداية، ولأغراض عسكرية واستخباراتية في بلاد العم سام، ثم انتقلت العدوى إلى الجامعة ومراكز الاقتصاد في العقدين اللاحقين، ومع بداية التسعينيات صار الأنترنت متاحا للجميع، لكن التأريخ لعلاقة الأنترنت بالأدب ينطلق من بوابة أساسية هي «مشروع غوتنبرغ» لصاحبه مايكل هارت الذي فكر مع مطلع السبعينيات في جمع قدر هائل من الكتب، وتمكين المنخرطين في الشبكة العنكبوتية من الإطلاع عليها مجانا، وعلى مدار ثلاثة عقود الأولى تجاوز عدد الملفات المتاحة الرقمَ الخرافي «تريليون».
ثورة
لقد كانت الوظيفة الأساسية للأنترنت في إطار علاقته مع الأدب منذ البداية وإلى اللحظة الراهنة وظيفةً تداولية، ثمة الكثير من التجريب بخصوص ما يسمى «الأدب الترابطي» أو «الأدب الرقمي» الذي ظهر في أوروبا وأميركا خلال العقد الأخير من القرن الماضي، ولاحقا بالعالم العربي، لكن تلك التجارب تبقى في الغالب غير كافية وحدها لجعل نص ما أدباً، فأدبية النص ناتجة بالأساس من قيمته الفنية وحمولته الإنسانية وتلك العلاقة الإبداعية الغامضة التي تجعل من المضمون وشكله قطعةَ بلور متماسكة ومذهلة. ربما بمقدور الأنترنت أن يخدم الجانب التقني لنص ما، لكنه غير قادر على جعله نصا مستقلا وخارجا عن ذلك الإطار الذي يحيط الفكرة الأدبية عموما، ونحن نتحدث هنا عن النص الأدبي المكتوب طبعا، لا عن تلك المنجزات الفنية المرئية والمسموعة المرتكزة على مهارات بصرية وصوتية وحركية والتي تندرج هي الأخرى في باب الأدب (قصيدة بصرية، شعر صوتي…) أقصد ما يصطلح عليه Les performances sonores et visuelles، وهي شكل فني قائم بذاته، وبإمكانه الحضور في غنى عن التفاعل الرقمي.
إن الأدب منذ مشروع غوتنبرغ وإلى لحظتنا الراهنة مدين للأنترنت بالانتشار، هذا هو المعطى الأساسي الذي بفضله وقعت ثورة حقيقية في عالم الكتابة، وحين أقول «ثورة» فإني لا أتحدث هنا عن ثنائية الجودة والرداءة التي يضعها أغلب المهتمين نصب أعينهم وهم يفتحون النقاش في هذا الموضوع، ولا أتحدث عن ظاهرة «استسهال الأدب» التي يرفعها النقاد كراية شرود في ملعب الكتابة كلما تعلق الأمر بأدب الأجيال الجديدة. ولكني أتحدث عن هذه الوفرة في النصوص والكتب التي لم تكن متاحة على الإطلاق قبل عصر الأنترنت، وأتحدث عن «هجمة المعلومة الثقافية» من مختلف مشاربها، والتي لم تعد حكرا على جهة دون أخرى.
كان الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير يرى حتى نهاية القرن بأن الإنسان عليه أن يسافر باتجاه المعلومة، لكني أظنه غيّر الفكرة، إذ صارت المعلومة هي التي تسافر إليك من الجامعات ومراكز المعرفة عبر أطراف العالم، لتصل إلى بيتك مهما كان بعيدا، والذي لا يلزمه سوى جهاز صغير تصله تغطية الشبكة. ولنقل، إذا ما أردنا أن نحافظ على روح فكرة ميشيل سير، إن السفر إلى المعلومة قد يكون ضروريا، لكنه الآن سفر افتراضي.
إقبال على الأدب
ثمة وجه آخر لثورة الأنترنت يمكن أن نراه حين نتحدث عن هذا الإقبال العجيب للشباب على الأدب، ويمكن بكل بساطة إحصاء عدد المواقع والمدونات الشخصية والعامة المخصصة للأدب، والتي لم يكن لها من وجود قبل عقدين أو ثلاثة. ويمكن أيضا تعقب صفحات مواقع التواصل في عالمنا العربي مثلا (الفايسبوك بالأساس) لأخذ فكرة عن العدد الكبير للشباب الذين اختاروا كتابة الأدب، وتخصيص صفحاتهم لنشره والحديث عنه. لا أحد بمقدوره الآن أن يحصي عدد الصفحات التي أنشأها أولئك الشباب الممسوسون بالكتابة الأدبية في المغرب ومصر ولبنان والكويت والعراق وغيرها.
وجه ثالث لما فعله الأنترنت في الحياة الأدبية هو تكسيره لتلك الجدارات القائمة على ثنائية ثقافية شغلت الناس لفترة طويلة، أقصد ثنائية مركز وهامش، لم تعد أية مدينة اليوم مركزا ثقافيا يمارس سطوة ما على الهوامش، لقد تغير الشعار، فمركزك اليوم هو حاسوبك. وبإمكانك أن تؤلف فيه أعمالك الأدبية وتتواصل عبره مع الناشرين أينما كانوا، وتجمع فيه مختاراتك من الروايات والنصوص الشعرية والمسرحية والكتب النقدية التي ترغب في قراءتها، ويمكنك أيضا أن تتابع عبره ما ينشر في صحافة العالم قبل أن يصل إلى أيدي الآخربن على شكل مطبوعات ورقية، وبمقدورك طبعا أن ترسل من خلاله موادك للنشر في الصحافة الثقافية التي لم تعد تتمسك بالمطابع فحسب، إذ صار لكل مجلة وجريدة موقع وأكثر.
عبر حاسوبك يمكنك أن تتواصل مع كل من وما يخدم أدبك ويجعله قريبا من الناس ومتداولا على نطاق أوسع، يمكنك أن تفتح موقعا ما وتعبئ بطاقة المشاركة في إقامة أدبية بطرف العالم دون الحاجة إلى جهة رسمية في بلدك، يمكنك أن تنشر ما تريد في المكان الذي يناسبك، ويتلاءم مع طريقة تفكيرك، من دون تضييع الوقت في تشذيب النص وتهذيبه لأسباب إيديولوجية أو سياسية أو طائفية تهم الجريدة أو المجلة التي كنت تنشر فيها من قبل.
ربما تراجع الرقيب الأخــلاقي والإيــديولوجي والسياسي إلى الخلف، وابتــعد مــن الأدب ليس بشكل نهائي، ولكن بمــساحة كبيرة جعلته غير قادر على متابعة كل شيء، أو على الأرجح لم يعد الرقيب قادرا على فهم ما يحدث في أرض الأدب.
هذه الوفرة الهائلة في تداول النصوص الأدبية منذ ظهور الأنترنت لا يمكن أن تمر هكذا، من دون نتائج تنعكس على مسار وتاريخ الأدب، لكنها نتائج لا يمكن الحديث عنها الآن، فما من معيار لضبطها، ثم لا بد من مسافة لقراءتها. سيجري النهر، نهر الزمن ومعه نهر الأدب، ويمكننا لاحقا، وبعد ان تأخذ التجربة الوقت الكافي، أن نطرح السؤال المزدوج: ما الذي قدمه الأنترنت للأدب؟ وما الذي أخذه منه؟
السفير