صفحات العالم

المزاج «الاستقصائي» وجثة سيدة من داريا


حازم الأمين

أول من أمس ماتت سيدة داريا. السيدة غير المجهولة الهوية، تلك التي شطبت وجوهنا في تقرير تلفزيون الدنيا. لم يدر في خلد مراسلة المحطة الى داريا ان السـيدة المحتضرة التي أسندت لها رأسـها علـى حـجر لـكي يستقيم أمام الكاميرا سـتتمـكن منـها، وسترحل بعد اسبوع مخلّفة حكاية أخرى غير تلك التي نقلتها المراسلة مبعدة عن كاميرتها حراب الجنود.

والسيدة التي استعانت محطة «الدنيا» بأنفاسها الأخيرة، محاطة بجثث أطفالها، لم تكن بعيدة في تلك اللحظة عن موقع وجود مراسل صحيفة «الأندبندنت» روبرت فيسك الذي رافق جنود النظام أثناء دخولهم الى داريا. فيسك الذي «أذهل» العالم بنقله مشاهد من حكاية ذلك اليوم في داريا مُلتقطة من خلف المدرعات، لم يدر في خلده أن ما جرى أقوى من حواسه الاستقصائية، وأن الحقيقة هناك لا لبس فيها. فثمة رقم للقتلى يتراوح بين 800 و1200 قتيل. انهم الزاوية الضيقة والوحيدة للمشهد. القول ان «الجيش السوري الحر» استدرج المواجهة، وأن بين عناصره غرباء عن داريا، وأن عين مراسل حربي رصدت تحركاً مريباً وفشلاً في التفاوض، وأن خطأ ما حصل… كل ذلك يبقى دون رقم الضحايا. أما ذروة الخيبة فتكمن في ان المراسل عينه كان زميلاً (افتراضياً) على الأرض لتلك المراسلة التي أسندت رأس السيدة المحتضرة والتي أجرت معها حديثاً، معتقدة بأنه سيكون الأخير.

للحكايات من سورية وجوه وأسماء ومواقع وتواريخ. انها حكايات صغيرة كاملة، ومؤلفة من عناصر يصعب دحضها. سيدة أخرى من جنوب لبنان متزوجة من رجل سوري ومقيمة في داريا، قتلت في المجزرة التي ارتكبها النظام هناك. الحكاية الصغيرة لهذه السيدة شطبت وجه «حزب الله»، ذاك ان عائلة الضحية أقامت مجلس عزاء صامتاً لضحية النظام في قريتها في جنوب لبنان. مجلس عزاء فقط، لا خُطب فيه ولا مواقف. صمت وحيرة ومشهد عديم الانسجام! اذ كيف تستقيم رواية الحزب في ظل جثة سيدة يقول زوجها ان النظام هو مَنْ قتلها.

حكاية سيدة واحدة من داريا، كانت أقوى من الحكاية الكبرى التي حاكها «حزب الله». في جنوب لبنان بدأت الحكاية على النحو الآتي: بينما كانت ابنة تلك السيدة الضحية، المقيمة في مدينة صور تشاهد التلفزيون، اذا بها تشاهد جثة والدتها بين جثث الضحايا. لم تشأ الإبنة لاحقاً ان تجيب عن أسئلة الصحافيين حين قصدوها. كان صمتها غريباً، لكن من شاهدها قال ان وجهها يشبه وجه جثة أمها.

لا شيء أقوى وأوضح وأكثر دقة من الحكايات الصغرى عن داريا. تلك الحكايات التي اعتقد تلفزيون «الدنيا» ان من الممكن لكاميرته ان تلتقطها من وراء دبابات النظام وبنادق الجنود. انها حكايات بسيطة الى حد يصعب تزويره. سـيدة قـتلها الجنود. لا شيء أبسط من ذلك. ولا يمكن فعل شيء في ظل هذه البساطة. ان تُسبق الحكايات بعناصر تُمهد لوقوعها، لن يفيد شيئاً، لا بل إن ذلك سيجعل من المقدم عليه مجرد باحث عن مسوّغ للقتل. روبرت فيسك لم يُسء مباشرة إلى الضحية، انما سقط في فخ الجاني حين قرر ان يرى المشهد من خلف دباباته. «حزب الله» بدوره لم يصمد أمام جثة. تهاوت روايته في صمت ابنة الجثة وتوأم وجهها.

تقول الرواية الاستقصائية الكبرى عن داريا ان «الجيش الـحر» أخـطأ في الـسيـطرة على المدينة قبل نحـو شـهـريـن، وأن النظـام نـجح في اسـتـدراجـه الـى التجـمـع فـي المدينـة، وانقـض عـليه بعـد ان كـان نجح في دفع مئات المقاتلين الى داخل المدينة.

وتقـول روايـة استقـصـائية صـغيرة من بين 1200 رواية، ان طفـلاً عمـره 4 سـنوات وُجـد حياً بين جـُثـث ثـلاثـة أشـقاء له فيـما كـانـت جـثـة أمـه فـي الجـهة الأخـرى من المنزل الذي لم يُصب بالقصف.

في الرواية الكبرى افتراضات (أخطأ الجيش الحر)، وتقديرات (نجح النظام في استدراج المقاتلين)، وتوقعات. في الرواية الصغرى وقائع صرفة (طفل حي. أشقاء قتلى. جثة امرأة في الجهة الأخرى…). الجهد الاستقصائي لروبرت فيسك يسقط أمام هذه المعادلة، فماذا يُفيدنا ان نعرف في لحظة المجزرة ان خطأ حصل على الجبهة؟ ألا تحمل القابلية لتجريم جثة استعداداً مسبقاً لحماية الجاني؟ ثم ان الاستقصاء وقائع وأرقام وحكايات، وليس تقديرات وتوقعات وافتراضات، وبهذا المعنى لم يتمكن فيسك باحترافيته من ان يضاهي رقماً مجرداً أعلنه رجل تولى الإشراف على دفن الجثث في داريا.

المشهد في سورية أوضح من ان يُستقصى من خلف الجنود. فثمة نظام يقول إنه يقصف ويقتل، وروبرت فيسك حين قابل 4 مقاتلين غير سوريين في السجن أوصله النظام اليهم، كان عليه ان يبدأ قصته عنهم بعبارة: «لم أقابل 30 ألف سجين سوري. مُنِعت من مقابلتهم. سُمح لي بمقابلة 4 معتقلين غير سوريين». كم يبدو ذلك بسيطاً وصحيحاً، وكم يبدو أقوى من رواية فيسك عن المقاتلين غير السوريين في سجون دمشق.

في اليوم الثاني لمجزرة داريا اتصلت صحيفة «الأخبار» اللبنانية بمراسلة «الدنيا» الى داريا لتسألها عن التقرير الذي أعدّته هناك. طلبت المراسلة ان تعاود الصحيفة الاتصال بها بعد دقائق. لكن المراسلة أقفلت هاتفها بعد ذلك. الخطوة بدت بالغة الدلالة في تفسير ما أقدمت عليه المراسلة. اما سيدة داريا التي خضعت أثناء احتضارها لاستجواب المراسلة، فقد أكملت الحكاية قبل ان تموت. لقد أصيبت بعشر رصاصات في ظهرها، أي ان المراسلة حين أخضعتها لذلك الاستجواب بعد وقت قصير من إصابتها، كانت تعرف انها تجري مقابلة مع سيدة مصابة بعشر طلقات.

أليس ذلك أكثر بلاغة ودقة من المزاج الاستقصائي لروبرت فيسك؟

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى