صفحات الرأي

المستبد العادل


عباس بيضون

مع بدايات النهضة تمثل الرافد الديني لها فكرة المستبد العادل ووجدت هذه الفكرة نسبا لها في الخلافة الإسلامية، وربما حولها هذا الانتساب عن أصلها البسماركي وردها إسلامية عربية أصيلة. ثم كان بعد سقوط فلسطين أن تتالت الديكتاتوريات العسكرية في العراق وسوريا ومصر وفي الجزائر واليمن وموريتانيا وتونس. كان هذا هو الجواب عما سمي النكسة. ومن الواضح ان الديموقراطية لم تكن الجواب بل لم يخطر انها قد تكون جواباً. لم تكن الديموقراطية بالطبع قريبة من الإسلام، ولم تكن بالطبع جزءاً من الحلم القومي الذي عقب سقوط فلسطين، فهذا الحلم كان في الواقع عسكرياً بسماركيا. كانت عسكرة المجتمع وحلم القوة العسكرية والاستعداد للثأر العسكري من الهزيمة، كان ذلك كله يتصوّر المجتمع على مثال الجيش المنتظم الموحد الذي لا مكان فيه للفرقة أو التنوع قبل للانتظام والطاعة العسكرية والامتثال والصدوع للأوامر والاندماج والانصهار، بحيث يبدو أي خلاف أو أي رأي آخر خيانة وتواطؤا، إن لم يكن عمالة وتخريباً. المستبد العادل إذاً كان يندمج في الحلم القومي. فالعسكرتياريا الحاكمة تحتكر الدولة وتحتكر الاقتصاد بقدر ما تحتكر الرأي وتدعي تمثيل المستقبل القومي وروح الأمة، بحيث تكون أي مخالفة لها طعنا على المستقبل وعلى روح الأمة ومروقا عن العروبة والأمة الرابطة القومية، وبالطبع انشقاقا عن كتائب الأمة المرصوصة في جيش متخيل وشق عصا الطاعة على القيادة القومية المتماهية مع القيادة العسكرية. لم تبشر الديكتاتوريات العسكرية بالمستبد العادل لكنها استلهمت الفكرة وطبقتها. في البداية تمثل العدل بالتأميم والدعوى الاشتراكية، كما تمثل بالتصنيع وتمثل الحلم القومي بالوحدة وكل هذا اختصر في ذلك الحين المشروع القومي: التصنيع، الاشتراكية، عسكرة المجتمع، الوحدة والتحرير والجلاء، فضلاً عن القوة العسكرية. كانت هزيمة 5 حزيران افتضاحاً لهشاشة الأنظمة العسكرية وبربريتها وبدائيتها. لقد حملت الناصرية على عاتقها التحديث والتوحيد القومي والعسكرة والاشتراكية. هزيمة 5 حزيران أظهرت المحتوى الحقيقي للديكتاتورية العسكرية. ليس سوى التخلف، تخلف الدولة وتخلف الجيش وتخلف الاقتصاد وتخلف السياسة. لقد صيغ المشروع القومي لكن بأكثر الصيغ تخلفاً، لم يكن هناك سوى نسخة رديئة من الأنظمة السوفياتية، أسوأ صيغة للتأميم أو هو التأميم الذي ينتهي بمافياوية متخلفة. أسوأ صيغة للعسكرة التي تترادف مع الجهل والتخلف، أسوأ صيغة للتحديث الذي لا يخرج عن البرستيج الحكومي، أسوأ صيغة للوحدة التي تنقلب استبداداً للطرف الأقوى بالطرف الأضعف.

أسوأ… أسوأ، لم يبق سوى الاستبداد الذي يقارب الجريمة بل هو الجريمة نفسها. هكذا تتحول الاستبداديات العسكرية إلى أنظمة إجرامية، لم تكن «حماة» بالأمس شيئاً أكثر، أما الحولة والتريمسة فهما مثلانا الراهنان. بعد أن تنكشف العدالة الزائفة لا يبقى سوى الاستبداد والقتل يغدو عندئذ العقوبة الوحيدة. إذا خالفت تُقتل، إذا خالفت تموت. النخبة العسكرية الحاكمة لا تعود شيئاً سوى المافيا العائلية وآلة القتل. تآكل النظام السوفياتي واستسلم. أي نهر من الدم سيضعه النظام السوري قبل أن يتآكل ويستسلم هو الآخر.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى