صفحات الناس

المسيحيون السوريون هم الأقل طائفية/ سليم بشارة

 

 

تحاول بعض القنوات السورية المعارضة، ومنها قناة “الأورينت” تسليط الضوء على ملف الأقليات في سوريا الذي يسعى النظام السوري إلى استثماره من خلال مراكمة المزيد من عناصر القوة المجتمعية في صفه واستجلاب تسامح دولي متزايد حيال ما يرتكبه يومياً بحق الشعب السوري من أفعال تستوجب المساءلة في المحاكم الجنائية الدولية، وذلك بذريعة كاذبة هي حماية الأقليات ومكافحة الإرهاب.

في تلك الملفات، يتم التطرق، بتركيز ملحوظ، للمسيحيين دون عموم السوريين وانتماءاتهم، بعدما كثر الحديث أخيراً عن بعض رجال الصف الأول في الكنيسة وتمسكهم بأذيال النظام واستجدائهم الدعم الدولي له. وكذلك وجود عدد من “الشبيحة” من المحسوبين زورا على طوائفهم، مع العلم أنه في كل طائفة أو منطقة بعض المضلَلين والمنحرفين.

ذهب أحد ضيوف قناة “الاورينت” التي رأت في تقريرها أنّ “الشبيحة المسيحية أصبحت أخطر من الشبيحة العلوية”، إلى حد اتهام “الأقليات” جميعها بالعمالة التاريخية لكل أنواع الاستعمار، مستعيداً فكرة “المظلومية السنية” على امتداد الزمن. لذلك بات من الضروري إجراء مقاربة موضوعية لظاهرة تخوف السوري من المستقبل في ظل استعار حرب الشعارات الطائفية والنعوت المهينة، من قبيل “النصيرية” و”الروافض” و”الكفار” والتي تجري، ويا للأسف، على لسان بعض من هم في معسكر مواجهة النظام. فباتوا بذلك يهددون ويتوعدون طوائف الآخرين، بالجملة والتعميم، متجاهلين خطر وجود عدد من المنظمات المتشددة على الأرض السورية.

يمكن القول إن مصطلح “الميليشيات المسيحية المسلحة” الذي تردد كثيراً في بعض التقارير التلفزيونية، غير صحيح، ولا يشبه في جوهره مصطلح “الميليشيات الإسلامية المسلحة”، ذلك أن المرجعية الدينية تغيب تماماً في حين يسجّل بروزها لدى تلك الميليشيات المسلمة التي تنطلق أساسا من فكرة نصرة الدين وتطبيق الشريعة ومحاربة الكفر. فإذا حملت بعض العصابات التي يتكون أفرادها من مسيحيين السلاح ومارست “التشبيح”، فإن مرجعية هؤلاء هي الأجهزة الأمنية وميليشيات النظام، وليس المؤسسات الدينية المسيحية ولا المسيحية كديانة.

لنتذكر أنّ المجتمع غير المسيس يبقى فريسة سهلة لطرف يحتكر كل وسائل الإعلام والتضليل ويمتلك كل أجهزة القمع. لذا كان يسيراً على النظام استخدام “شبيحة” من كل الطوائف، كشبيحة الريف الحلبي وشبيحة الساحل وشبيحة جبل العرب لقمع التحركات الاحتجاجية الواسعة التي واجهته إبان اندلاع ثورة الحرية والكرامة.

ويمكن القول إن النظام الذي خلخل كل مؤسسات المجتمع السوري عبر تاريخه القمعي الطويل، كان حاضراً في تشكيل قيادات المؤسسات الدينية عبر لعبته الأمنية. ولم يقتصر الأمر على المؤسسات المسيحية، بل شمل كل المؤسسات الدينية الأخرى. وكلنا يعرف البوطي والحسون والقبيسيات، وصهيب الشامي وأبو القعقاع، وأن أي خطيب جمعة في أبعد قرية مُراقب أمنياً، وعليه تقع الضغوط للتسبيح بحمد النظام وإنفاذ الشائعات التي تطبخها الأجهزة في أقبيتها.

أما الحديث عن بعض الجمهور المسيحي الذي وقف على الحياد أو “كان في قلبه” مع النظام، فيعيدنا إلى حال كل مواطن سوري يخشى المستقبل الذي لم تلح تباشيره الإيجابية بعد في ظل غياب الخطاب الوطني الجامع للمعارضة المنقسمة وحلفائها الدوليين ذوي المصالح والتوجهات المتنافرة. ذلك أن “كبار هذا العالم” عجزوا عن إيقاف دورة الحرب المجنونة للنظام على شعبه، ومن آثارها ظهور المئات من التنظيمات المحلية المسلحة التي يرفع بعضها شعارات طائفية أنزلت السوري من رتبة مواطن متساو في الحقوق والواجبات إلى مستوى ذمي يدفع الجزية أو زنديق أو كافر أو ضال.

لا يستطيع الكثير من المواطنين السوريين تقبل فكرة تحرير مناطقهم من رجس النظام وتساقط براميل الموت التي لا توفر أحداً، مدنيا كان أم عسكرياً، لتنتقل إلى حال من الفوضى وضعف الخدمات، أو بروز التجاوزات المختلفة وتقييد الحريات.

ولسوء الحظ، فإن بعض المثقفين والثوريين يتهددون المسيحيين ويتوعدونهم بالويل والثبور وعظائم الأمور. ونتساءل عن ماهية تلك العقوبات الموعودة، هل هي القتل مثلا أم التهجير؟ والأهم مَن منحهم تلك السلطة ليهددوا. ألا يدركون أن من يسكن تحت سيطرة النظام سينطق بما يقوله النظام، ومن يقطن تحت سلطة “داعش” سينطق بما تقوله.

على من يتهم المسيحيين في وطنيتهم أن يدرك بأنهم ربما كانوا الفئة الوحيدة بين السوريين بلا تأطير طائفي مسيطر، وتالياً يتواجدون طبيعياً في هذا الصف أو ذاك. فمنهم من شارك في اندلاع الثورة على الأرض، ومنهم مع “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”، ومنهم مع هيئة التنسيق. وبينهم من حمل السلاح وقاتل الى جانب الفصائل الثورية، وبينهم من قاتل “داعش” بتنسيق مع بعض القوى الكردية. وإلى الآن لم تظهر مرجعية سياسية أو حزبية مسيحية تنادي ببقاء النظام، وكل من تطوع في صفوف “الشبيحة”، أو دافع عن الأسد في وسائل الإعلام أو في المحافل الدولية، قلة قليلة من فئة كبيرة، إذ توجد غالبية القامات الوطنية السورية المسيحية في صفوف المعارضة.

ولا يفوتنا القول إنه مثلما لا يمثل “داعش” الطائفة السنية، فإن ممارسة هذا السوري أو ذاك من هذه الطائفة أو تلك لا تمثل سوى مرتكبها. وهذه هي القاعدة التي يجب أن تنسحب على الجميع.

ناشط سوري مقيم في هولندا

النهار

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى