صفحات سوريةغازي دحمان

المشرق يقذف عقله!/ غازي دحمان

 

 

في الثلاث سنوات الأخيرة، والعقد الذي سبقها، قذف المشرق العربي ملايين مواطنيه إلى المغتربات، وكانت وجهة القسم الأكبر منهم بلاد الغرب الأوروبي وأميركا الشمالية، ولم يقتصر الأمر على مكون بعينه، طائفي أو عرقي، غير أن تداعياته تبدو أكثر وضوحاً على الأقليات حيث يمثل نوعاً من الاقتلاع النهائي لتلك المكونات من المنطقة، الأمر الذي يهدد بانتهاء زمن التعددية الدينية والعرقية في المنطقة.

هذا على المستوى الأفقي (المكونات الإجتماعية)، ولكن كان من الطبيعي ألا تقتصر عملية القذف على ذلك المستوى، حيث كان لها تأثير مواز في العمق الاجتماعي المشرقي، عبر دفعها للفئات الاجتماعية الخبيرة والمدربة في منطقة المشرق إلى الخارج، في خضم الحدث الرهيب، فقد خسرت بلدان مثل سوريا والعراق، معظم الكوادر الفنية والتخصصية، لدرجة أن قطاعات كبيرة أصبحت تفتقد لمشغليها، نتيجة هذا النزف الحاد في جسمها البشري، وصارت على وشك الموت والفناء، الأمر الذي يهدد عملية التنمية في تلك البلدان في المستقبل البعيد.

يشكل العنف والفوضى الحاصلة في المنطقة السبب الرئيسي وراء تلك الظاهرة، ذلك أن تلك الفئات بحكم تكوينها الثقافي، فئات ضعيفة بمعايير القوة التي تسود أثناء الحروب والنزاعات، لرفضها الانخراط في صراعات القوة، إضافة إلى كون تلك الفئات لديها رؤى ومواقف سياسية وثقافية معارضة لنظم الاستبداد، وفي الغالب، تهاجر القوة الحية، عندما تتحول أوطانها إلى بيئة طاردة، وغير قادرة على احتضانها، بسبب تدمير البيئة المناسبة لاستمرار أعمالها وفرص تطورها. إضافة لذلك غالبا ما تسعى أطراف النزاع إلى ابتزازها للوقوف إلى جانبها، إما لتدعيم مواقفها الخارجية واثبات أن النخب الحية تقف وراءها، أو للاستفادة من مهاراتها التقنية والمعرفية وتوظيفها في فعاليات الصراع.

لا شك أن تلك الفئات تشكل الرصيد الفكري والقدرات البشرية لأي دولة، وهي خزان بشري يجري هدره وفقدانه، ما يؤدي إلى تدمير أهم قطاعات التنمية في بلدانها، وينتج عن ذلك إضعاف منظومة إنتاج المعرفة واكتسابها، ودورها في إحراز التقدم في العصر الحالي ليس بحاجة لتأكيد، فالمعروف أن هجرة الكفاءات تصيب أشد ما تصيب مؤسسات التعليم العالي والبحث والتطوير، حيث تكون العناصر الفاعلة في هذه المؤسسات من أكثر عناصر الكفاءات رغبة في الهجرة، ومن أعظمها فرصة في تحقيقها.

في المقابل يتحول المهاجرون إلى مصدر قوة لاقتصادات الدول التي يقصدونها، وبخاصة دول الغرب، التي تستقطب القوى الحية من أصقاع العالم، وتساهم هذه في ازدهاره. إذ ترحب المؤسسات الغربية باستقطاب النخب المهاجرة، باعتبارها حاملة لفرص واعدة، ذلك أن هذه العقول المهاجرة تُعتبر رصيداً إضافياً لها في مجال الريادة العلمية والفكرية، وتساهم إسهاماً فاعلاً في التقدّم الصناعي والتكنولوجي، وتسرّع من حركة التنمية الشاملة فيها، وحتى المهاجرين من غير الكفاءات يوفرون يداً عاملة تنزع عن عاتق المجتمعات المستقبلة أعباء مهن بسيطة، فيفسحون المجال أمامهم للترقي في سلم المهن.

يميل البعض من أصحاب نظرية المؤامرة إلى تفسير الحالة في إطار لعبة مؤامراتية تبدأ من تخريب بلدان المصدر من أجل سرقة كوادرها. والواقع، أن هجرة الكفاءات من حيث أنها ظاهرة دولية تمتد جذورها عميقة في نظام الاقتصاد – السياسي الذي يسيطر على العالم. وعليه، فإن تفسير الظاهرة يكمن في الخصائص الجوهرية للنظام الاقتصادي العالمي خصوصاً تلك المتعلقة بقيام سوق دولية للكفاءات، كما أن نسق التعليم والتأهيل في بلدان العالم الثالث، يمتد أيضاً إلى خارجها من خلال تقليد أنساق التعليم العالي لنظائرها في البلدان الغربية المصنعة وعبر الابتعاث للدراسة في الخارج، وينتج كفاءات من النوعية المطلوبة للسوق الدولي بدلاً من تلك التي تتواءم مع الاحتياجات الأساسية لبلدان الأصل.

هجرة الكفاءات وتأثيراتها السلبية هي عملية ديناميكية، تستغرق زمناً حتى تتمظهر نتائجها السلبية في المجتمع، حينها تكون المجتمعات تطوّرت، أو تكيّفت، مع نسق قيمي يتناسب مع عدم وجود تلك الكوادر والنخب فيها. والمشكلة أن هذه الإشكالية لا يمكن تعويضها في الأجيال القادمة، ذلك أن الأنساق القيمية التي يجري إحلالها تكون طاردة لهذا الأمر، غير أن ما هو أكثر تأثيرا وخطورة يتمثل في انعدام فرص التغيير وممكناته في المجتمعات القاذفة، على اعتبار أن تلك الفئات يقع عليها العبء الأكبر في تحريك التغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي عن طريق العمل الفكري والعلمي والسياسي.

لطالما أتحفتنا النظم الاستبدادية بتعرضها لمؤامرات كونية تعمل على إسقاطها، من أجل السيطرة على ثروات البلدان التي تحكمها، لكن الوقائع تثبت أن أكبر المؤامرات هي تلك التي تنفذها نظم الاستبداد على شعوبها، بإهدارها لأهم الثروات في العصر الحديث، العنصر البشري، بوصفه ثروة غير ناضبة، في زمن صارت الأفكار فيه تشكل أهم عناصر الاقتصاد وأسباب الثراء.

المستقبل

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى