المشروع الكردي في سوريا وخطوط تركيا الحمراء/ سعيد الحاج
بين النظام والثورة
خطوط أنقرة الحمراء
الخيارات التركية
في مرحلة تعيش فيها المشكلة الكردية داخل تركيا إحدى أعقد فتراتها، تحاول أنقرة إعاقة تقدم الفصائل الكردية المسلحة في الشمال السوري وتعتبر مشروعها السياسي على حدودها الجنوبية خطا أحمر من منظور أمنها القومي لا يمكن أن تسمح بتجاوزه.
بين النظام والثورة
منذ بدء الثورة السورية اختط حزب الاتحاد الديمقراطي -أقوى الأحزاب الكردية المنظمة- لنفسه طريقا ثالثا تمايز فيها عن النظام والقوى الثورية المعارضة، حيث رأى في تطورات المشهد فرصة ذهبية لأكراد سوريا لإنهاء مظلوميتهم التاريخية وتحقيق آمالهم في بلورة مشروع سياسي خاص بهم.
وبناء على هذه الرؤية فقد تجنب الحزب وذراعه العسكري (قوات حماية الشعب) الدخول في مواجهات مباشرة مع النظام، بل على العكس تماما بدا وكأنه ينفذ اتفاقا ضمنيا أو سريا معه، من خلال انسحاب الأخير من المناطق ذات الأغلبية الكردية وسيطرة الأول عليها دون قتال ثم تسيير أمورها.
في يناير/كانون الثاني من عام 2014 أعلن الحزب إدارة ذاتية في الشمال السوري على “كانتونات” ثلاثة هي عين العرب/كوباني والجزيرة في الشرق وعفرين في الغرب. ثم كانت معركة عين العرب/كوباني اللحظة الفارقة التي قدم فيها الحزب نفسه كفاعل محلي مستعد لقتال تنظيم الدولة وقادر عليه، الأمر الذي أمن له دعما وتسليحا وتعاونا إقليميا ودوليا. بدأ هذا الدعم في معركة عين العرب نفسها، ثم استمر في معركة تل أبيض في يونيو/حزيران 2015 والتي سيطرت عليها قوات الحماية بغطاء جوي أميركي دون التنسيق مع أنقرة.
لاحقا، وبعد أزمة إسقاط المقاتلة الروسية في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، رأت موسكو في الفصيل الكردي خير معين لها لتحقيق هدفين رئيسين: مساندة النظام في وجه المعارضة “المعتدلة” المحسوبة على تركيا بشكل رئيس، ومعاقبة الأخيرة بقطع تواصلها الجغرافي مع فصائل المعارضة وحصارها بشريط كردي.
وقد أثبتت قوات الحماية جاهزيتها للعب هذا الدور فأخرجت التنظيم من عشرات القرى، ثم سيطرت مؤخرا على مدينة تل رفعت الإستراتيجية في ريف حلب وتقدمت نحو إعزاز. وفي مقابل الاستعداد المبدئي والنتائج العملية، حصل الحزب على عدة مكافآت روسية، منها التسليح والغطاء الجوي الروسي، ومنها فتح مكتب له في موسكو تحت اسم “تمثيلية غرب كردستان” وهو ثاني مكتب تمثيلي له في العالم بعد ممثلية إقليم شمال العراق.
خطوط أنقرة الحمراء
ما بين استقبال أنقرة لزعيم حزب الاتحاد صالح مسلم في أكتوبر/تشرين الأول 2014 وبين اعتبارها تقدم قوات الحماية مؤخرا خطرا على أمنها القومي تطورات سريعة ومتلاحقة خدمت فكرة الإدارة الكردية الذاتية أو “الممر الكردي” على حدودها الجنوبية.
فتركيا الرسمية، التي لا تنكر المظلومية التاريخية للأكراد والتي قامت بإصلاحات جذرية فيما يخص حقوقهم القانونية والسياسية والثقافية على مدى سنوات طويلة توجتها بعملية التسوية، ترى في المشروع السياسي للحزب على حدودها الجنوبية خطرا من الناحية المبدئية، يتمثل في ثلاث نقاط جوهرية:
الأولى، أن قيام هذا الممر الكردي كبذرة لدويلة مستقبلية سيتم في إطار سيناريو تقسيم سوريا الذي تعارضه أنقرة بقوة، لعدة أسباب في مقدمتها انعكاساته السلبية على مشهدها الداخلي المتنوع إثنيا ومذهبيا والمتواصل مع سوريا جغرافيا وثقافيا.
الثانية، أن الكيان الوليد سيكون على الأغلب متناقضا في عقيدته السياسية وعلاقاته الإقليمية والدولية مع تركيا، وحليفا لمناوئتها القديمة المتجددة روسيا، وهذا يعني حصار موسكو لأنقرة من الجنوب أيضا.
الثالثة، أن الكيان السياسي المفترض سيكون نموذجا مكررا لحصول الأكراد على حكم ذاتي ومشروع سياسي خاص بهم خارج إطار الدولة المحلية بعد نموذج شمال العراق، وهو ما سيشجع بالتأكيد أكراد تركيا على رفع سقف مطالبهم من مواطنة متساوية الحقوق إلى إدارة ذاتية وربما إلى انفصال مستقبلا.
من ناحية أخرى، سيعيد هذا التطور للمشكلة الكردية بعدها الإقليمي وهو ما سيصعّب على أنقرة إمكانات الحل الداخلي ويفتح الباب واسعا أمام التدخلات الأجنبية والمصالح الدولية.
أما فيما يتعلق بالتفاصيل والاستشرافات والهواجس المستقبلية، فإن تركيا تنظر بعين القلق الشديد لعلاقة الحزب -وذراعه العسكرية- العضوية مع حزب العمال الكردستاني الذي يخوض حربا ضد الدولة التركية منذ عام 1984 سقط خلالها أكثر من 30 ألف ضحية، فضلا عن حالة التصعيد المستمرة معه في مدن جنوب شرقي البلاد. وعليه فإنها تعتبر هذه الفصائل منظمات إرهابية، وترى أن إنشاء كيان سياسي لها في شمال سوريا خط أحمر لا يمكنها السماح بتجاوزه، للاعتبارات التالية:
1- خوف أنقرة من أن يتحول هذا الممر إلى حاجز طبيعي وسياسي بينها وبين سوريا خاصة والعالم العربي بشكل عام، الأمر الذي سيعني تضييق الهوامش التركية الضيقة أصلا في الأزمة السورية، وخسارتها على المدى الإستراتيجي فيما يتعلق برؤيتها للمنطقة ودورها التكاملي فيها.
2- تخشى تركيا من تحول المناطق الشمالية التي يسيطر عليها الأكراد إلى ساحات تدريب وتهريب أسلحة نحو الداخل التركي، وتقول إنها تملك أدلة على أنفاق موجودة فعلا بين طرفي الحدود التركية السورية، مما قد يعني تأمين قاعدة انطلاق لعمليات مستقبلية لحزب العمال الكردستاني ضدها.
ولعل انتقال عدد من قيادات الكردستاني من جبال قنديل في العراق إلى عين العرب، ومشاركة بعض عناصره في القتال مع قوات حماية الشعب، والعثور على أسلحة روسية وأميركية قدمت لأكراد سوريا في يد مقاتلي الحزب داخل تركيا إشارات هامة لا يمكن إغفالها في هذا الإطار.
3- ترى أنقرة أن روسيا وحلفاءها يستغلون ملف اللجوء كسلاح ضدها، وتخشى أن تؤدي معارك تمدد الفصائل الكردية المسلحة الأخيرة إلى موجة لجوء كبيرة نحوها، قدّرتها بعض المصادر التركية بنحو مليون شخص.
4- يقوم المشروع الكردي على السيطرة على ريف حلب الذي تتمركز فيه المعارضة السورية “المعتدلة”، بما يؤدي لحصارها وخنقها تماما ومنع التواصل بينها وبين الأراضي التركية، الأمر الذي يعني انقطاع الدعم التركي لها عسكريا ولوجستيا وإنسانيا، وهو سيناريو كارثي على المعارضة ومجمل الأزمة السورية وكذلك على تركيا.
الخيارات التركية
لهذه الاعتبارات وغيرها، فقد حذرت تركيا هذه القوات مرارا من تخطي نهر الفرات غربا بذريعة مواجهة تنظيم الدولة، وهو ما استدعى استدارة من الأخيرة وداعميها، بضم بعض الفصائل التركمانية والعربية الصغيرة وغيرها لها تحت اسم “قوات سوريا الديمقراطية” التي تقدمت لاحقا نحو سد تشرين وسيطرت عليه.
ويبدو الآن أن هذا الخط الأحمر قد أصبح خطين بتهديد تركيا القوات الكردية المسلحة بخصوص تجاوزها عفرين شرقا، وهو خط يبدو أنه سيواجه مصير سابقه -أي التجاوز- بعد سيطرتها على تل رفعت وتوجهها نحو إعزاز.
قبل الحديث عن الخيارات المتاحة أمام أنقرة، ينبغي الإشارة إلى أن التطورات في الشمال السوري لم تعد بالنسبة لتركيا مسألة دولة جوار لها معها حدود طويلة ومصالح متشعبة، بل أضحت مسألة تركية داخلية. أولا على خلفية اتهام أنقرة لقوات حماية الشعب -بالاشتراك مع حزب العمال الكردستاني- بالوقوف خلف تفجير أنقرة الذي أودى بحياة 28 شخصا واستهدف قلب العاصمة أنقرة ومؤسساتها الحكومية والعسكرية وما قد يعنيه ذلك من مرحلة جديدة مختلفة وخطيرة في سيرورة المواجهة الكردية التركية، وثانيا بسبب ما سبق ذكره من مخاطر تراها تركيا إستراتيجية وحيوية للمشروع الكردي في سوريا بما فيها تدويل “المسألة الكردية”.
من ناحية أخرى تتبدى معضلة تركيا في تلقي الفصائل الكردية دعم حليفها الأميركي قبل خصمها الروسي بل وربما تنافسهما على ذلك، دون الالتفات كثيرا للاحتجاجات التركية المتكررة ولا حتى بعد اتهام أنقرة لقوات الحماية بتدبير هجوم أنقرة الخطير.
الأكثر خطورة أن تراجع الدعم الأميركي -وهو سقف ما قد تستطيع الضغوط التركية تحقيقه في غياب قدرتها على التأثير على الموقف الروسي- ليس بالضرورة في صالح تركيا، إذ سيلقي ذلك المقاتلين الأكراد تماما في الحضن الروسي وربما إلى الأبد، بينما يضمن الدعم الأميركي الحالي -على الأقل نظريا- إمكانية التأثير عليهم وإبقائهم ضمن الحدود المقبولة أميركيا وبالتالي تركيا.
من البديهي أن خيار التدخل البري المباشر والموسع غير مطروح على الأجندة التركية ولا هو في مقدور أنقرة (لا لوحدها ولا بالتعاون مع الرياض) دون قرار أممي وغطاء أميركي ومشاركة من التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب و/أو حلف شمال الأطلسي، وهذا ما أكده أكثر من مسؤول تركي وآخرهم وزير الخارجية تشاووش أوغلو حين تحدث عن شرط مشاركة كل دول التحالف الدولي، واعتبر الأخبار المتعلقة بتدخل تركي منفرد أو ثنائي مع السعودية “مغلوطة”.
أما المشاركة الجوية لتركيا والسعودية فلن تستطيع مستقبلا الفكاك عن مظلة التحالف ولا لافتة مكافحة تنظيم الدولة، لأن البديل هو مواجهة مباشرة مع الدب الروسي الذي لا قبل للبلدين بمواجهته، ولا ضوء أخضر أميركيا بخصوصه، بل على العكس تماما خرجت تصريحات من قيادات في الناتو تحذر تركيا من استفزاز روسيا وتهددها بتركها وحيدة في مواجهتها باعتبارها المعتدية.
صانع القرارات التركي أمام خيارات محدودة وصعبة وغير مضمونة العواقب، بينما الملف الكردي مفتوح على تطورات خطيرة في الداخل والإقليم، وهو ما يضع تركيا -فعلا لا شعارا- أمام منعطف خطير وحدث مفصلي في لحظة تاريخية بكل ما للكلمة من معنى، الأمر الذي يحتاج لكثير من التعقل والحكمة، ولكن أيضا السرعة والحزم
” وفي ظل تعذر إقناع أنقرة لواشنطن بتغيير موقفها وسقفها المتعلق بتسليح المعارضة السورية بأسلحة نوعية، سيما مضادات الطائرات، لا يبقى أمام أنقرة سوى أربعة خيارات رئيسة:
الأول، الخروج عن السقف الأميركي وتجاوز خطوط واشنطن الحمراء بخصوص تسليح المعارضة، بما يمكن أن يعدل الكفة في ريف حلب، ويوقف زحف القوى الكردية المسلحة. وهو خيار يبدو ضروريا لأنقرة وفق التطورات الحالية والمخاطر المستقبلية لكنها لا تبدو مستعدة له في الوقت الحالي، على الأقل وفق الإشارات التي تصدر عن قياداتها، فضلا عن تبعاته الثقيلة.
الثاني، التقارب مع حزب الاتحاد الديمقراطي ومحاولة كسبه لجانب أنقرة لتجنب أي مواجهة مستقبلية معه أو تطورات قد تضر بمصالح أنقرة. بيد أنه لا يبدو خيارا عمليا بعد كل المحاولات التركية السابقة لاحتواء صالح مسلم واستقباله في أنقرة، وبعد التنافس الأميركي الروسي على دعم حزبه بما يرفع من سقف طموحاته، وأخيرا بعد تفجير أنقرة واتهامات تركيا للحزب وقصفها المدفعي المتواصل على مراكز قوات الحماية.
الثالث، استمرار القصف المدفعي التركي لمواقع قوات الحماية في غياب سلاح الجو التركي بسبب السيطرة الروسية الكاملة على الأجواء السورية ومنظومة S400 على أراضيها. وهو خيار لا يمكنه، كما ثبت في تل رفعت وغيرها، إيقاف التقدم الكردي بل تكاد فائدته تنحصر في منع استقراره على مقربة من الحدود التركية.
الرابع، أن تتدخل تركيا بريا بشكل محدود لإنشاء “منطقة آمنة مصغرة” يجري الحديث عنها منذ فترة في كواليس أنقرة منذ أيام، بعمق 10 كلم داخل الحدود السورية لتشمل مدينة إعزاز المهمة، بحيث تكون ملجأ للاجئين السوريين داخل الأراضي السورية، ومتكأ تحاول أنقرة مع الوقت استثماره وتوسيعه إن استطاعت و/أو تغيرت المعادلات والمواقف.
في المحصلة، فصانع القرارات التركي أمام خيارات محدودة وصعبة وغير مضمونة العواقب، بينما الملف الكردي مفتوح على تطورات خطيرة في الداخل والإقليم، وهو ما يضع تركيا -فعلا لا شعارا- أمام منعطف خطير وحدث مفصلي في لحظة تاريخية بكل ما للكلمة من معنى، الأمر الذي يحتاج لكثير من التعقل والتفكير والحكمة، ولكن أيضا السرعة والحزم والمبادرة، وهي معادلة صعبة جدا بطبيعة الحال فضلا عن كلفتها المادية والمعنوية.
الجزيرة نت