المشكلة في أردوغان أم في «إسلامية» الحكم التركي؟/ عبدالوهاب بدرخان
سيطرح الحدث التركي أسئلة لفترة مقبلة أكثر مما سيعطي أجوبة عن دوافع العسكر الانقلابيين، وقد لا يعطيها أبداً، لكنها ستنعكس على توجّهات الحكم والحكومة وسياساتهما في التعامل مع التحدّيات الخارجية التي وُضعت تركيا رجب طيب أردوغان أمامها. ذاك أن المحاولة الانقلابية لم تكن مجرّد تطور محلّي يطمح إلى حسم إشكال داخلي يهدّد الأمن القومي أو بلغت تعقيداته استعصاءً تطلّب تدخّل الجيش لحسمه. صحيح أن هناك احتقاناً داخلياً بسبب النهج «السلطاني» لأردوغان، لكن في مقابل أقلية هامشية تحنّ إلى حكم العسكر هناك غالبية عابرة للأحزاب أكّدت عبر صناديق الاقتراع، على رغم اعتراضاتها على خيارات «حزب العدالة والتنمية»، أنها تفضّل الأعوام الأربعة عشر من النهوض الاقتصادي على أربعة عقود سابقة شارفت على إعلان تركيا بلداً مفلساً.
لعل المشترك بين المحاولة الأخيرة والانقلابات الأربعة السابقة أن بعض الجنرالات قرأ مناخ الصراع الدولي على الإقليم بأنه ظرفٌ مناسبٌ لإعادة طرح الجيش كأفضل قناة للتعامل مع القوى الدولية، كما كان الأمر في حقبة الحرب الباردة، عندما كانت تركيا إحدى أهم نقاط التماس بين معسكرَي الشرق والغرب. وإذا صحّ أن الانقلابيين هم – فقط – أنصار جماعة فتح الله غولين، أو حتى إذا كان هذان الانتماء والتصنيف مجرّد عنوان متداول، فإن نوعية الذين طاولتهم الاعتقالات بيّنت أن الاختراقات لدوائر الدولة كانت عميقة جدّاً. وبالتالي فإن لديهم أنصاراً في الداخل ولا بدّ أن لديهم سماسرة وزبائن ومستثمرين في الخارج. لكن التجربة المتلفزة التي شهدها العالم ليلة 15 – 16 تموز (يوليو) أظهرت أن أردوغان وأركان حزبه وحكمه أكثر من الانقلابيين معرفةً بالتغيير الذي طرأ على تركيا وبالتالي أكثر اتصالاً بواقعٍ ساهم أهل الحكم أنفسهم في صنعه.
لذلك نجحت رهانات أردوغان الثلاثة: أولاً، على أن التغييرات التي أشرف عليها في الجيش والأمن والاستخبارات لن تلعب ضدّه. وثانياً، على أن جمهوره سيلبّي نداءه بالنزول إلى الشارع. وثالثاً، على أن المواجهة بين الشعب والانقلابيين سترغم حتى خصومه على الدفاع عن التجربة الديموقراطية بمن في ذلك الأحزاب التقليدية التي ربما يعوّل العسكر عليها لتسيير الدولة وتوفير وجه مدنيٍّ لها… لكن هذه الرهانات لا يمكن أن تُلعَب كما لُعِبَت إلا مرة واحدة، ولا يمكن أن تعطي النتيجة نفسها في أي مرّة مقبلة، لأنه بالنظر إلى عملية «التطهير» الجارية، وعشرات الألوف الذين ستنال منهم، والإذلال الموثّق الذي تعرَّض له جنرالات وضباط وجنود، والنقمة التي ستنجم عن المحاكمات وأحكام التخوين وتداعياتها على عائلات المتورّطين… كل ذلك ينذر بمحاولات مقبلة قد يكون التخطيط لها وتنفيذها أكثر إحكاماً، وقد لا تكون «سلمية» الشارع مجدية عندئذ في ردعها.
لماذا يبقى الخطر ماثلاً؟ لأنه لا داعي لـ «نظرية المؤامرة» لاشتمام روائح الإيحاء الخارجي في هذه المحاولة الانقلابية، بدءاً من البيان المتلفز ومضمونه، وصولاً إلى انهيار الانقلابيين. فهؤلاء لم يقدموا على الانقلاب «لاستعادة النظام الدستوري، والديموقراطية، وتمكين سيادة القانون بعد تدهور حال حقوق الإنسان والحريات والنظام الأمني العام» كما أفاد بيانهم، ولم يخفقوا فقط لأنهم أبقوا الكثير من الثغرات في خطّتهم أو لأنهم وجدوا أنفسهم في مواجهة مباشرة مع الشعب، بل أخفقوا لأنهم انتظروا تبنّياً أو اعترافاً خارجياً تأخّر كثيراً، ثم لم يأتِ أبداً. ثمة سوابق مماثلة في عدد من البلدان. وفي تحليل لتصريحات العديد من المسؤولين الأتراك، ولخريطة المواقف الأميركية والروسية والإيرانية والإسرائيلية، ولاتهامات أردوغان لجماعة غولين وردود الأخير بأن أردوغان رتّب الانقلاب على نفسه، سيتبيّن أن جميع المعنيّين كانوا يعلمون بأن «شيئاً ما في صدد أن يحصل».
قالت الأنباء الأولى أن البيت الأبيض يراقب التطوّرات، وعندما أُعلن بعد نحو أربع ساعات أن باراك أوباما يحضّ على «دعم الحكومة المنتخبة ديموقراطياً» فُهم أن الانقلاب قد فشل. أما في موسكو فقد قفز سيرغي لافروف فوراً إلى التحذير مما هو «محرّم»! في العرف الروسي، أي «سفك الدماء»، وإلى النصح بـ «حل المشاكل دستورياً» وفقاً للتقاليد الروسية، من دون أن يوضح عن أي «مشاكل» يتحدّث. لكن ناطق الكرملين كان إيجابياً في قوله «يمكن البحث في منح أردوغان لجوءاً إذا طلبه»، فيما كانت جهات أخرى تتحدث عن طلبه اللجوء إلى المانيا. وعلى رغم صمت الحكومة الإسرائيلية، إلا أن الإعلام عكس مزاجاً عاماً غير متأثر بأجواء «التطبيع» بين البلدَين، بل غير بعيد عن مزاج أنصار النظام في سورية، لكن من دون إطلاق النار ابتهاجاً. أما في طهران، فلم يأتِ التذاكي هذه المرّة من موظف في الخارجية بل من كبير مستشاري المرشد، إذ انتهز علي أكبر ولايتي المناسبة للإشارة إلى أن أردوغان منتخب مثله مثل بشار الأسد الذي «لو لم يدعمه الشعب لما صمد خمسة أعوام مقابل حرب دولية».
بعد ساعات على انتهاء الانقلاب اجتمع أوباما مع مستشاريه الديبلوماسيين والأمنيين للبحث في التداعيات (أي تداعيات؟)، وكان الانطباع السائد في تركيا أن واشنطن توقّعت أو تمنّت نجاح الانقلاب، ولو نجح لكانت أعلنت استعدادها للتعامل مع الحكام الجدد أقلّه لأنها تحتاج إليهم وهي في خضم حرب على الإرهاب. أما وزير الخارجية جون كيري فوجد نفسه مضطرّاً للردّ على سيل من الأسئلة من نوع: هل كانت واشنطن تعلم بالأمر مسبقاً؟ وهو نفى طبعاً، لكن نفيه يتناقض مع اهتمامات أميركا وعلاقاتها العميقة والقديمة مع قادة الجيش والأجهزة الأتراك. يمكن طرح الاستفهام ذاته في شأن «الناتو» واستخباراته، وكذلك الروس والإسرائيليين والإيرانيين، فالكل ناشط ومتحفز في هذه الأيام. ففي أسوأ الأحوال يمكن أن يكون هناك متورّطون خارجيون، وفي «أفضلها» يمكن أن يكونوا علموا بما يُخطّط ووجدوا فيه مصلحة فتكتّموا، والأهم أن أياً منهم لم يتوفّر لديهم الدافع لتحذير أنقرة. لماذا؟
الأسباب كثيرة ومتداخلة، لها أسماء ووجوه عدة، لكنها تُختَصَر في واحد: أردوغان. إذ إن القوى الخارجية التي لمست منه تعاوناً وجدت أيضاً أنه صعب المراس بالنسبة إلى الاستحقاقات الإقليمية المقبلة. ومع ارتسام خرائط تفاهمات (أميركية – روسية – إسرائيلية، وروسية – إيرانية…) لتوزّع المصالح والنفوذ في سورية والعراق وتمرير الجراحات الجغرافية – السياسية المطلوبة لتلبية طموحات الأكراد في دولة أو أقاليم متصلة، تبدو تركيا – أردوغان عقبة أمام هذه التفاهمات. فهي الدولة الوحيدة الباقية من إرث سايكس – بيكو والمتمسّكة به بعد الانهيارَين العراقي والسوري، ولعلها الوحيدة التي تعتبر تحقيق الحلم الكردي تهديداً وجودياً لها ولوحدة أراضيها. وحتى لو انحنى أردوغان أمام الريح، وأبدى استعداداً للتطبيع مع النظام السوري بعد التطبيع مع روسيا وإسرائيل وإيران، إلا أن نبرته الاستقلالية ونعرته الأيديولوجية (الدينية) وتنسيقه مع السعودية ودول عربية أخرى لا تريح الأطراف الأخرى العاكفة على تقاسم المنطقة.
لا يزال صعباً تكوين فكرة واضحة ومفصّلة عن تفكير الانقلابيين وأهدافهم وخياراتهم بالنسبة إلى التغييرات الإقليمية، وما إذا كانوا تحرّكوا فقط بدافع التعصّب للعلمانية والرفض لوجود أردوغان و »حزب العدالة والتنمية» في الحكم، وهل يمكن أن يكون هؤلاء العسكريون قد تعهّدوا مواقف مختلفة من الأكراد ومطالبهم ومن تفكيك بلدين عربيين مجاورين. وهل لتوقيت الانقلاب علاقة بسيناريوات التطبيع الأردوغانية، سلباً أو إيجاباً. وهل أن وجود حكم إسلامي في تركيا لا يرشحها بنظر القوى الأخرى لحصّة في رسم خرائط الإقليم وتوزيع النفوذ الإقليمي. أسئلة كثيرة قد تجيب عنها التحقيقات والمحاكمات وقد لا تجيب. وفي الانتظار، يصحّ التساؤل هل أن لدى القوى الخارجية، أميركا تحديداً، مشكلة في التعامل مع حكم ذي طابع إسلامي حتى لو كان منتخباً ديموقراطياً و… ناجحاً؟ التفاوض على عضوية الاتحاد الأوروبي، الحملة الغربية لـ «شيطنة» أردوعان، والمواقف الملتبسة من «حزب العمال الكردستاني» وعملياته الإرهابية، والتواصل الأميركي – الإسرائيلي مع شبكات «الكيان الموازي»… كل ذلك يشي بأن ثمة «مشكلة» فعلاً وقد ساهم أردوغان نفسه في مفاقمتها.
الحياة