صفحات العالم

المشهد السوري الكارثي: لعبة شطرنج من دون هدف!/ صلاح أبوجوده

 

 

يتوافق جزء من تصريح وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية جون كيري بتاريخ 19 تشرين الأول الجاري الذي قال فيه إن بلاده تريد “الاضطلاع بدورها بغية تجنب دمار سوريا الشامل والكامل وتداعياته السلبية”، وحقيقة ما يجري على أرض الواقع ألا وهو تدمير سوريا تدميرًا شاملاً وكاملاً.

أما الجزء المتصل بالسعي لتجنب تلك المأساة فلا ينطبق والواقع بسبب ارتباك الدول الكبرى وتحديدًا الولايات المتحدة وروسيا، إزاء تعقيدات المشهد السوري، وغياب الإستراتيجيات عن تدخلهما في الأزمة المستمرة من خمس سنوات. فالأمر الوحيد الثابت إلى الآن هو أن القوة التدميرية تتنامى بسرعة منذ التدخل العسكري الروسي الجوي المتزامن مع تدخل إيراني بريّ، وتفعل فعلها في القضاء على ما تبقى من سوريا، في ظل حركة سياسية دولية لا تؤدي إلا إلى صب الزيت على النار.

يبرز الغموض والارتباك في موقف روسيا في التصريحات المتناقضة التي تصدر عن الرئيس الروسي ورئيس وزرائه ووزير خارجيته والتي تتجاوز مجرد المناورات السياسية. فتارة يُقال إن هدف تدخل روسيا العسكري الحفاظ على نظام الرئيس الأسد والقضاء على الإرهاب الذي يتهدده، وتارة لا تهدف روسيا إلى الدفاع عن الرئيس الأسد بل عن مصالحها (من دون تعريفها!)، وتارة تعتبر روسيا كل المعارضة المسلحة السورية إرهابية، وتارة تُبدي استعدادها لدعم الجيش السوري الحر جوّا في وجه داعش. وليس الأمر بأفضل من جانب الولايات المتحدة. ففي حين أن إدارة الرئيس أوباما تدين النظام السوري وتريد تنحي الرئيس الأسد، نجدها تتخذ موقفًا مترددًا سياسيًا وعسكريًا من المعارضة السورية، بل ومن النظام نفسه. فإنها لا تريد تقوية المعارضة إلى حد يخولها إسقاط النظام، لأنها لا ترى بديلاً منه في ظل انقسام المعارضة وصعود التيارات الإسلامية فيها وانتشار “داعش”، ولا تريد أن يقوى النظام وحلفاؤه على المعارضة.

تتفاقم هذه المواقف المتناقضة، أولاً، بسبب حدود التدخل العسكري لكل من الولايات المتحدة وروسيا – الأمر الذي يؤدي تدريجا إلى تفعيل متزايد للحرب بالواسطة؛ وثانيًا، بسبب عدم قدرة أي من القوتَين على الانسحاب من مسرح الأحداث نظرًا إلى التزامهما مع حلفائهما الإقليميين ومصالحهما السياسية والاقتصادية وهيبتهما الدولية؛ وثالثًا، لأنهما غير قادرتَين وحدهما على الحل والربط في سوريا، إذ تتشابك في المشهد السياسي والعسكري على السواء قوى إقليمية في طليعتها السعودية وإيران وتركيا.

في ما خص حدود التدخل العسكري، يبدو أن روسيا قد حددت لنفسها فترة أربعة أشهر – قد تكون نتيجة اتفاق في الكواليس مع بلدان أوروبية خائفة من موجات اللاجئين، وتفاهم مع إسرائيل، وتاليا بمعرفة الإدارة الأميركية المسبقة – بغية منع انهيار النظام السوري واستيلاء المجموعات الإسلامية و”داعش” على دمشق. ولا شك في أن فشل سياسة الولايات المتحدة في تدريب مجموعات من المعارضة المعتدلة، وفشل غاراتها الجوية وحلفائها في إضعاف “داعش”، ساهما في فسح المجال للتدخل الروسي. ولكن الروس يعلمون أنه ليس بوسعهم من خلال الضربات الجوية قلب الأوضاع كليًا لمصلحة الرئيس الأسد، وليس بمقدورهم التورط، لا في حرب برية ستكون مكلفة بشريًا وماديًا، ولا في حرب جوية طويلة الأمد، نظرًا إلى الأزمات الاقتصادية الحادة التي تمر بها بلادهم، وبوجه خاص بسبب العقوبات التي فُرضت عليها إثر الأزمة الأوكرانية وضم شبه جزيرة القرم.

أما الولايات المتحدة فخبرتها المريرة في العراق وأفغانستان وما نتج عنها من تكاليف بشرية ومادية ومعنوية باهظة، فضلاً عن وعود الرئيس أوباما الانتخابية بسحب جيوش بلاده من الوحل العراقي والأفغاني تدريجيًا، تجعلها في موقف حرج. فمن جهة، لا يمكنها أن تترك الدولة الإسلامية تتمدد في المنطقة بحيث تشكل لاحقًا خطرًا مباشرًا على مصالحها وعلى حلفائها، ولا أن تترك القوات السورية النظامية وحلفاءها ينتصرون على المعارضة، ومن جهة ثانية، لا تريد إرسال قوات برية، الأمر الذي يورطها في مغامرة مكلفة ومجهولة النتائج. وفي الوقت عينه، لا تريد أن تترك روسيا تقوّي وجودها في سوريا إلى حد يجعلها اللاعب الأقوى.

وهكذا، أصبحت الولايات المتحدة وروسيا متورطتين في حرب لا تستطيعان الانسحاب منها ولا الغوص فيها أكثر، ولا يستطيع أي بلد منهما أن يترك الآخر يملك أوراقًا تمكنه من فرض شروطه. فلا يبقى أمامهما، تاليا، إلا اتباع طريق المساومات التي يجب أن تمر حتمًا باللاعبين الإقليميين المنخرطين في الصراع السني – الشيعي (السعودية وإيران)، وفي الصراع التركي – الكردي، وبالطبع بإسرائيل التي تراقب تطور الأوضاع عن كثب. وفي الواقع، تفتح طريق المساومات الإلزامية المشهد السوري على احتمالات كثيرة. فماذا سيكون رد فعل تركيا على الأكراد المستفيدين من الضربات الجوية الروسية والأميركية على السواء لتعزيز مواقعهم ومناطق استقلالهم الذاتي؟ وماذا سيكون رد فعل إيران على روسيا في حال اتجهت هذه إلى المساومة على حليفها الأول أي الرئيس الأسد؟ وماذا سيكون رد فعل السعودية على روسيا وإيران إذا صممتا على التمسك بالرئيس الأسد ودعمه ليكون الأقوى عسكريًا وسياسيًا؟ وماذا سيكون رد فعل إسرائيل إذا تحولت المناطق الخاضعة للنظام قواعد عسكرية إيرانية؟ ومن سيواجه “داعش” فعليًا وكيف؟

إن طريق المساومات لن تكون سهلة. لذا، يبقى الرهان على إقامة التوازن العسكري على الأرض أمرًا محسومًا، وبالتالي سنشهد تدفق المزيد من “السلاح النوعي”، ومزيدًا من دمار سوريا “الشامل والكامل”. وإزاء هذا الواقع، يكون الخاسر الوحيد الشعب السوري بكل مكوناته. فأعداد الهاربين من جحيم المعارك يزداد، والمعارضة السياسية والعسكرية المتمسكة برحيل الرئيس الأسد فقدت قرارها ومبادرتها وأصبحت ورقة بأيدي لاعبين خارجيين، والأمر عينه ينطبق على النظام الذي يعتمد على قوى خارجية ليحافظ على استمراره ومحاربة خصومه.

أليس من الأفضل أن يسعى السوريون إلى استعادة قرارهم والتحرر من الأيدي الخارجية، من خلال تبنيهم الفوري مبادرة الأمم المتحدة، بدءًا بإعلانهم عن وقف شامل وغير مشروط للنار؟ أليست هذه الطريق الأسلم للحفاظ على ما تبقى من البلاد والبدء برحلة الألف ميل نحو مصالحة الخصم بدل القضاء عليه؟ أوليست أخيرًا الطريق الأفضل ليضع السوريون القوى الدولية والإقليمية المتورطة في أزمة بلادهم إزاء مسؤولياتها الكاملة، من دون لبس ولا مواربة، لمواجهة الدولة الإسلامية؟

أستاذ في جامعة القديس يوسف

النهار

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى