المشهد السياسي السوري ، و توازنات القوى الاستراتيجية في المنطقة
طريف الخياط
في خضم المعترك الدولي الذي لم يحسم أمره بعد بما يخص موقفه من النظام السوري، فإن ضبابية المشهد في تزايد. تعداد الضحايا الموثق يرتفع بشكل يومي، لكنه لم يبلغ بعد أدنى الإحصائيات المرجحة لضحايا مجزرة حماة عام 1982، طبعا إذا افترضنا أن المفقودين على قيد الحياة. من الواضح أن النظام السوري يرتبط بشبكة علاقات دولية معقدة من خلال المثلث الصيني الروسي الإيراني، و يمتلك من الأوراق ما يكفي لإرباك أي قرار محتمل في مجلس الأمن. الكيان الإسرائيلي غير مستعد لتقبل ثورة عربية أخرى على حدوده و خصوصا من دول الطوق المهمة كسوريا، و في حين أن الثورة المصرية تم احتوائها من خلال المجلس العسكري، فإن الثورة السورية غير مضمونة النتائج بسبب غياب قوة فاعلة، قادرة على ضبط أجهزة الدولة و تقديم الضمانات المرحلية اللازمة.
تعتبر الجامعة العربية نقطة العبور الوحيدة باتجاه مجلس الأمن، و في الوقت ذاته هي جزء من الشبكة الدولية المعقدة، و قد تكون المنظمة الأضعف. الحسم في القرار الدولي يتبعه موقف عربي، و في المقابل فإن الجامعة قد تجد نفسها في وضع محرج يدفعها إلى رمي الكرة في ملعب الآخرين، بعد أن تستنفذ كل أوراقها من لجنة المراقبين حتى قوات الردع العربية. تطور الأحداث على الأرض و تزايد عديد الجيش السوري الحر و عملياته و انتصاراته المرحلية، يزيد الفرص في أن يكون الحل سوريا داخليا. فقد استطاع الأخير مرات عديدة و ليس اخرها عملية الزبداني ، أن يضع النظام في حالة فقدان السيطرة الأمنية على العديد من البقع الجغرافية التي تقع تحت سلطته.
يبدو النظام اليوم مهلهلا أكثر من ذي قبل على الرغم من تماسكه الظاهري، و أصبح جليا للمراقب في الشأن السوري أن الرئيس الحالي بشار الأسد يفتقر إلى الكاريزما المطلوبة لسدة الرئاسة في دولة عريقة سياسيا مثل سوريا. لقاء محطة الاي بي سي الأمريكية الشهير الذي سخرت الخارجية السورية ماكينتها الإعلامية لترقيعه و تلميعه، كان أول ما ابتدأ به بشار الأسد خطابه الرابع مبررا لمرة إضافية تصريحاته المرتبكة، متطرقا إلى لقائه السابق مع التلفزيون السوري لينأى بنفسه عن تهم التوتر و الاضطراب، و في اليوم التالي للخطاب فشلت المسرحية المفبركة التي كان من المفترض أن تبدو كخطاب خامس مقتضب ضمن حشد مليوني في ساحة الأمويين بدمشق، حيث أثبتت عدسات الناشطي أن الحشد المزعوم لم يتجاوز بضعة آلاف .الشريحة المستهدفة بما سبق هي مناصري النظام و ليس أعداؤه، مما يبينأأ عمق الأزمة التي يعانيها الرئيس السوري الحالي على المستوى الشخصي أولا و بين مؤيديه ثانيا. و يطرح الكثير من التساؤلات عن موقف أعمدة نظامه الذين باتوا يعتبرونه صورة مزيفة لوالده حافظ الأسد، لكنها الضامن المتوفر لبقائهم في مناصبهم و استمرارية سطوتهم. إن أي تصعيد في موقف الدول الكبرى و التلويح بالخيار العسكري إضافة إلى شح الموارد المالية في خزائن النظام، قد يفتح الباب أمام عملية جراحية خاطفة ضمن العصبة الحاكمة، تضمن أمن الحدود و تبعد شبح التصعيد عن أي صراع طائفي محتمل في سوريا.
في تسعينيات القرن المنصرم تعرض العراق لضربة عسكرية تلتهاعقوبات اقتصادية، أنهكت النظام العراقي خلال ما يزيد عن عقد من الزمان،و كانت الحرب عام 2003 الضربة القاضية. من الصعب مقارنة إمكانيات سوريا العسكرية و الاقتصادية الحالية بنظيرتها العراقية الضخمة في ذاك الوقت، في سوريا ثورة مشتعلة تمتد على مساحات شاسعة من التراب الوطني مدعومة بحماية عسكرية من الجيش السوري الحر. من المحتمل أن يترك النظام السوري لمصيره، يتفكك و يتحلل ببطء على مدى عام أو أكثر بدعم عسكري غربي أو بدونه. إن تجذر الانتماءات المركبة الماقبل مدنية للفئات التي تشارك في الثورة أكثر من غيرها، يعتبر من النتائج المتوقعة لهذا الطرح. بما سيؤدي في المقابل إلى تزايد المخاوف لدى الأقليات الدينية و الطائفية و العرقية إضافة إلى العلمانية التقليدية من استبدال قمع المجتمع بقمع النظام. النسب العالية للبطالة الحقيقية و المقنعة في سوريا ما قبل الثورة و تعاظمها خلال الثورة و انحدار الوضع الاقتصادي المتوقع بعد سقوط النظام، و الابتعاد لفترات طويلة عن البيئة الطبيعية للعمل المنتج، سيجعل ضبط الشارع أول أزمة حقيقية تواجه أي نظام تفرزه الثورة.
يعتبر النموذج التركي ممثلا بحزب العدالة و التنمية حلقة وصل مهمة بين الشرق و الغرب، من حيث قدرة أحزاب سياسية ذات توجهات إسلامية على قيادة دولة مؤسسات عصرية، و تقع على عاتق دول الربيع العربي مسؤولية متابعة المسيرة للتخفيف من أزمة الإسلاموفوبيا لدى فئات من شعوبها أولا و المجتمع الدولي ثانيا. إن الصندوق الانتخابي في تلك الدول قد أوصل حتى الآن إسلاميين إلى السلطة، و لن تكون سوريا استثناء. من الظلم أن تحكم شعوب ذات أغلبية متدينة، بأنظمة سياسية فرضت العلمنة على مدى العقود الماضية و منذ الاستقلال، من حق الشعوب أن تحدد خياراتها ضمن إطار مدني ديمقراطي. غياب برنامج عمل سياسي و اقتصادي واضح لدى الأحزاب المرشحة للسلطة أو التي وصلت إليها، هو أهم ما يميز واقع الربيع العربي عن التجربة التركية، مع عدم إنكار التاريخ النضالي و السياسي لأي من تلك الأحزاب.
إن انهيار نظام الأسد بات حتميا ، الخلاف في التفاصيل الزمن و الطريقة و التبعات . أفعال اليوم ستترجم إلى نتائج في المرحلة المقبلة. لا زال التوجيه و التناغم السياسي لدى المعارضة دون المستوى المطلوب، بل يشكل أهم نقاط ضعف الثورة، فغيابهما بات مصدر خوف للأقليات كما الأكثرية على حد سواء. التوجيه عامل ضبط أثناء و بعد الثورة في حين أن المزايدة لاسترضاء الدعم الشعبي لا تخدمها، و التناغم مطلوب لضمان انسيابية القرارات في المرحلة الحالية و استقرار السلطة الانتقالية فيما بعد. التقارب بين الجيش السوري الحر و المجلس الوطني السوري خطوة انتظرها الشعب الثائر منذ تأسيس كليهما، خطوة على الطريق الصحيح. المسؤولية اليوم هي تقديم ضمانات ملموسة لكل المتخوفين من نجاح الثورة، و في لمقابل فإن مشاركة الفئات و الشرائح التي تضع مسافة بينها و بين الثورة هو واجب وطني، فالثورة السورية هي ملك لجميع السوريين.