المشهد كما هو/ عناية جابر
لو تطلعنا الى وضعنا اليوم على نحو مجرد وتساءلنا هل صارت بلادنا، اقرب مما كانته، الى الحرية والكرامة والديمقراطية، الشعارات التي حمل لوءاها الربيع العربي الموعود؟ هل يمكننا القول بصفاء وضمير مرتاح أن ما جرى كان من باب الثورة على الشيء ومن باب التحولات الديمقراطية ؟هل يستطيع أي منا ومن دون وخز ضمير أن يؤكد اليوم ما أكده بالأمس بأن ما جرى لم يكن إلا انتفاضات شعبية داخلية على أنظمة ديوثة استبدادية تقمع شعوبها ؟ كم كنت أود لو كان الجواب بنعم.
وبصراحة أكثر أعترف لكم أن من يجيب بنعم اليوم على هذه الاسئلة لا ينعم من قبلي بأي احترام موضوعي. لا لأنني متعصبة لرأيي ابداً بل لأنني أرى فيه في أفضل الأحوال موظفاً في شركة يدافع عن معيشته فيها ظالمة أو مظلومة. أتفهم تماماً أن يكون الإنسان صاحب قضية وأن يكذب قليلاً لكي يدافع عنها. لكن قليلا لا كثيراً. فعندما يبالغ المدافعون عن قضيتهم الى درجة نكران الحقائق، الظاهرة أمام الجميع، يعرضون أنفسهم إلى ما يشبه حالة أصحاب اللغة الخشبية التي تعمل وفق مبدأ عنزة ولو طارت.
أن يكون ما حصل مبني على وجود تناقضات داخلية موجودة في كل قطر عربي من أقطار الربيع العربي حقيقة لاجدال فيها. أن يكون هناك مشاكل حرية وحقوق إنسان ونخب متعلمة تعاني من ثقل مجتمع تقليدي لم يبرح ماضيه بعد مسألة لا يمكن لعاقلين أن يختلفا عليها. أن تكون أنظمة الحكم بحاجة الى تغييرات جوهرية لكي تتناسب مع عصر يتغير وحاجات اجتماعية وحقوقية جديدة فهو عين البداهة.
أن يكون كل ذلك موجوداً فليس معناه في آن معاً أنه كان في لبّ الصراع الناشب وموضوعه الأول. ذلك ان ما نراه اليوم من اصطفافات اقليمية ودولية ومؤتمرات واجتماعات علنية ونصف علنية بين أطراف كلها خارجية وكلها لا تلتئم إلا لدراسة وضعنا الذي لا يبشر بتغييرات داخلية مفيدة لشعوبنا. ما نشاهده اليوم يشير على الأقل الى صراعات بين قوى اقليمية ودولية على اقتسام بلادنا، لا على دعم الكرامة والحرية أو على تعزيز الدكتاتورية والاستبداد. لا يتيح ما نرى أن نستنتج أن هناك قوى دولية تمثل روبسبيير الثورة ضد قوى رجعية ملكية لا تقبل بالتغيير والتقدم.
إن من يقرأ الصحافة الدولية المنتشرة على صفحات الانترنت لا يقع على أي أثر لموضوع الحرية عندما يكتب عن بلادنا. الصحافة لا تتحدث إلا عن موقع هذا البلد أو ذاك في اصطفاف القوى الدولية الجديد. تتحدث الصحافة هناك عن أزمة الولايات المتحدة الوجودية ومحاولات تموضعها الجديد في العالم. تتحدث عن رغبتها في التخلي عن منطقة الشرق الأوسط التي لم تعد منطقة رئيسة في حساباتها. تتحدث عن حاجتها لراع يدير أمر هذا الشرق اوسط بغيابها القسري. تتحدث عن صعود دول جديدة بوجه المارد الأميركي. تتحدث عن وصول هذه الدول الجديدة الى مرتبة اتاح لها مواجهة مشاريع الولايات المتحدة الأميركية السياسية والاستراتيجية في جميع بقاع العالم.
إن من يقرأ هذه الصحافة العالمية لا يقع على تحليل يشير من قريب أو بعيد الى ثورات من نوع لا نقرأ عنه إلا في مجلاتنا وصحفنا العربية. فمن هو المخطيء يا ترى ؟ من يقرأ العالم كصراع بين قوى دولية حقيقية أم من يقرأ العالم على أساس رغبات بعض الشباب الى الحرية والكرامة والديمقراطية ؟ واقعياً هل يمكن اعتبار كل هذا الاستثمار الأميركي، أو الروسي-الصيني يا سيدي، في قضايانا استثمار في قضايا الشباب العربي وحريته وكرامته وحقوق إنسانه؟
السؤال في الصحافة الدولية اليوم هو كيف ستكون هذه المنطقة غداً وضمن منطقة نفوذ أي من القوى الأقليمية والدولية الجديدة أو القديمة؟ النقاش يدور حول أي سياسة واقعية براغماتية على الولايات المتحدة أن تعتمدها لكي تحافظ على مصالحها فيها بالرغم من انسحابها منها. ما نقرأه يشير إلى أن الولايات المتحدة حاولت الاعتماد على دور تركي-سني إخواني يعبيء الفراغ بغيابها ويقوم بما يمنحها حسنات المنطقة دون سيئاتها. وهي لذلك حاولت قلب هذه الأنظمة المستبدة الكافرة لمصلحة الوكيل الجديد الجدي والرصين والبالغ الحماسة للقيام بالمهمة كما ينبغي.
لم يكن في حساب هذه القوى إذن التحول الديمقراطي الداخلي الذي حلم به بعضنا. المسألة مسألة سياسات دولية جديدة تريد الزبدة بدون روث بقرات المزرعة. والسبب يعود الى مشاكل داخلية، اقتصادية ومالية، عند هذه القوى الدولية لا عندنا. نعم هي تستفيد من المشاكل الداخلية الموجودة في بلادنا لكي تحركها باتجاه يخدم تموضعها الجديد لكنها طبعا لا تذهب الى حد التضحية بمصالحها الكبرى لعيون بعض الحالمين العرب الذين صدقوا مثلا أن العالم الجديد هو عالم افتراضي ويمكن الثورة به من خلال الشاشات وال’ناشطين’.
إن تصوراً طوباوياً يقوم على النظر الى العالم على اساس الفسطاطين، فسطاط الأنظمة الديمقراطية من جهة وفسطاط الانظمة الإستبدادية المتخلفة من جهة أخرى، هو، في أفضل الأحوال، تصور أخلاقي لم يفهم منطق الصراع العالمي وقوانينه الحديثة. تصوّرٌ لم يستوعب بعد مفاهيم المصالح الإقتصادية التي ينهض عليها عالم اليوم. هو تصوّرٌ طفولي يرى إلى الكون كما لو كان الكون مؤلفا فقط من اخيار وأشرار. كله مطلق لا مصالح فيه ولا مساومات، لا أرقام فيه ولا مال واقتصاد وتوزيع ونهب ووضع يد واستغلال واستثمار.
إن المشهد الدولي كما هو، ونحن منه وفيه أيضاً، يستوجب منا أن نقرأ الوقائع كما هي وان نحدد مصالحنا منها وفيها لا أن نكتفي بتحديد رغباتنا المطلقات.
القدس العربي