صفحات العالم

المصلحة والأخلاق والتدخل الأجنبي


سامر فرنجيّة

تواجه مسألة استيراد المفاهيم «الغربية» إلى العالم العربي صعوبة عيشها وبقائها خارج تربتها الفكرية والثقافية. هكذا أخذت عملية التأقلم هذه حيزاً واسعاً من الفكر العربي الحديث، وجاء ذلك غالباً تحت عنوان تأصيل المفاهيم أو أسلمتها. غير أن العملية غالباً ما انتهت في دوامة ثقافوية، فباتت تدور حول نفسها في بحث عن ثقافة أصلية أو تراث طاهر. هذه النتيجة العبثية لا تلغي السؤال الأوّلي عن صعوبة استيراد المفاهيم، بل تدفعنا إلى البحث عن العائق في مكان آخر قد لا يكون بالضرورة ثقافياً.

في الموضوع السياسي مثلاً، قد تشكّل «النظرة المؤامراتية» للعلاقات الدولية أحد أصعب الحواجز للبحث في المفاهيم الدولية وامكانية استيرادها وامتلاكها. تطورت تلك النظرة نتيجة رواية تاريخية ترى المنطقة معرّضة دائماً لتدخلات غربية يمكن تلخيصها وتكثيفها بالنموذج الأول، أي الحقبة الكولونيالية. وتغذت تلك النظرة مع الوقت بفعل الاحساس العميق بعدم المساواة في القانون الدولي، كما يظهر في التعاطي الغربي مع المسألة الفلسطينية.

الرواية المؤامراتية هذه تقدّم تفسيراً مبسطاً لتلك المشاعر والحقائق، ملخصةً القانون الدولي أو السياسات الخارجية أو الرأي العام الغربي إلى أدوات في يد فاعل، يتغير تعريفه وفق الطلب، يتلاعب فيها كما يشاء بغية تأمين مصالحه.

ويقوم هذا المنطق على فهم خاطئ للمصالح، فينظر إلى هذا الجانب من العلاقات الإنسانية والسياسية بازدراء واحتقار. فوجود مصلحة وراء سياسة ما يعني تلقائياً، لأصحاب النظرة المؤامراتية، تلوّثها وسقوطها الأخلاقي. فإما أن تكون السياسة أخلاقية، قائمة على التضحية والعنفوان والشجاعة والشهادة والشرف، وإما أن تكون مجرّد مصلحة، ما يُفقد السياسة معناها النبيل. بناء عليه، يسقط الفكر السياسي الحديث، من ماكيافيللي إلى ماركس، لكونه مجردّ فكر «مصلحجي»، يقوم على محاولة إرساء التعايش بين المصالح في المجتمع أو سيطرة مصلحة على أخرى، أو يتمّ انقاذه كفكر فاضح للغرب ومصالحه، لكنه غير قابل للتطبيق عندنا، أرض الشهامة والعزة وعدم المساومة.

بدا هذا الموقف في رفض التدخل الأجنبي في سورية من قبل جماعة نظرة المؤامرة، ولأن هذا يخدم مصالح دول غربية، فقد اعتُبِر ذلك حجة كافية لدحض مقولة التدخل الإنساني. غير أن داعمي هذا التدخل لم ينجوا من هذا الفكر، مبررين مطلبهم بمنطق «مؤامراتي معكوس». فالمنطق المؤامراتي ثنائي التركيب، يتعاطى مع القانون الدولي إمّا كأخلاق منزّهة عن أية مصلحة وإما كمصلحة خالية من أية أخلاق. هكذا طالب بعضهم الغرب بالتدخل باسم واجب أخلاقي ما، كأن هذا الغرب مسؤول عن تصحيح كل خطايا هذا العالم. أما آخرون، فتذاكوا على الغرب، كاشفين أن اللعبة لعبة مصالح، مطالبين الدول الفاعلة بالتدخل من أجل مصلحتها قبل مصلحة الشعب السوري.

ما لم يقم به المطالبون بالتدخل الأجنبي هو التخلّص من البنية المؤامراتية التي تحكم فهمهم للعلاقات الدولية. والخطوة الأولى في هذا التحرر رفض ثنائية الأخلاق والمصالح، وكأن السياسة مقسومة إلى مجالين لا علاقة بينهما. فالقانون الدولي بحث دائم عن امكانية مصالحة هذين المنطلقين، وإن كانت هناك تجاوزات وإخفاقات. وفي خصوص التدخل الإنساني بالتحديد، هناك نقاش عمره عقود عن مسؤولية المجتمع الدولي تجاه الجرائم ضد الإنسانية وحدود التدخل وكيفية مراعاة مصلحة من يتدخل، وهو نقاش دار حول تجارب الصومال ورواندا وكوسوفو والعراق وغيرها من البلدان.

فالمسألة بالتالي أكثر تعقيداً من ثنائية الأخلاق والمصلحة، وتتطلب الغوص في هذه اللغة القانونية التي غالباً ما كان التعاطي معها بازدراء كونها مجرّد غطاء لحقيقة مطمورة ومصلحة مخفية (كشفها معلّقون «جيو- استراتيجيون» حان الوقت للتخلص من تحليلاتهم).

أمّا الخطوة الثانية، فهي رفض مقولة أن مصالح طرف معين حصرية، لا تتقاطع مع مصالح أطراف أخرى، أو حتى أعداء. فمقولة أن التدخل يفيد مصلحة الغرب تعني تلقائياً، لأصحاب الفكر المؤامراتي، أنه ينفي مصلحة العرب، وكأن هناك حاجزاً لا تسطيع المصالح خرقه. كما أن وجود تقاطع في مصالح معينة لا ينفي وجود اختلاف في مجالات أخرى. فموقف أميركا من الصراع العربي-الإسرائيلي لا ينفي امكانية تقاطع المصالح في شؤون أخرى، منها الموقف من سورية. وهنا تقع المسؤولية على عاتق المعارضة السورية لبلورة صورة واضحة عن تلك المصالح المشتركة مع الدول المُطالبة بالتدخل، وعن الشؤون الخلافية التي تبقى خارج هذا الإجماع. وربّما في البداية، كان مفيداً التخلّص من الخجل والحرج تجاه امكانية تقاطع المصالح مع بعض الدول، كمقدمة لطلب التدخل الإنساني.

فمن يطالب بتدخل إنساني في سورية، عليه البدء باعتبار حقيقة تلك المنظومة التي انتجت هذا النوع من التدخل، والتعاطي معها بعيداً عن خجل من يرى نفسه كمن يلتحق بمؤامرة. هذا لا يعني أن التدخل خير مطلق، أو صورة معاكسة لنظرية المؤامرة، بل هو مزيج من المصالح والاعتبار الإنساني والقيمي، له شروطه وقوانينه.

إن مسؤولية التدخل ستقع على عاتق بعض الدول، لكن مسؤولية تبرير وتأطير وقيادة مستقبل هذا التدخل ستقع على عاتق المعارضة السياسية السورية التي ستقضي على بشار الأسـد لكـنها ما زالـت غير مـقتنعة كفاية بموت منظومته الفكرية.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى