المعارضة الأخلاقية ومسارات المقاومة السلمية/ ياسر غريب
سيق صحفيٌّ ألماني في ريعان شبابه إلى الالتحاق بالجيش الألماني أثناء الحرب العالمية الأولى 1914-1918، وفي أثناء وجوده داخل أحد الخنادق على الجبهة كتب لأسرته يقول: “لطالما حلمتُ بأوروبا جديدة تتحدُ فيها كلُّ الأمم في أخوّة، وتحيا معاً شعباً واحداً، كان هذا هدفاً يغذيه الشعور الديمقراطي ببطء. وجاءت هذه الحرب الرهيبة طليقة بلا قيود تؤجج أوارها قلة من الرجال يرسلون رعاياهم بل عبيدهم إلى ساحات القتال ليقتلوا بعضهم بعضاً كالضواري… كم أود أن أذهب لمن يسمّونهم الأعداء، وأقول لهم: لنقاتل معاً يا إخوتي، فالعدو وراءنا. نعم، فمنذ أن ارتديت هذا الزي وأنا لا أحسّ بالبغض تجاه من أجدهم في مواجهتي على الجبهة، بل ازددت بغضاً لمن هم في السلطة ورائي”.
لم تمر سنوات حتى كتب أحد المفكرين سنة 1927: “لا يمكن إرغام أحد على اتباع نظام استدعاء، علينا أن نستأصل الهاجس النفسي الذي يجعلنا نعتقد أننا يجب أن نسير عندما يطلقون النفير”!
ويدرك الجميع أن الجيوش لا تنشئ مواطنين “جنوداً” مروضين مطيعين وشجعاناً فحسب؛ بل تنتج أيضاً جنوداً يفرون من الجندية، ودعاة سلم، ومتمردين، وأفراداً يبترون أوصالهم، ومجانين حربٍ أيضاً! لذا كان الاعتراض على المشاركة في الحرب سلوكا قديما، منذ تشكلت تنظيمات عسكرية لها فلسفاتها التي دفعت الناس لرفض أداء الخدمة العسكرية أثناء الحروب.
وهذا الكتاب “المعارضة الأخلاقية: مقاومة عسكرة المجتمع”، الذي ألفته مجموعة من الباحثين والناشطين، يقوم بتحليل هذه المعارضة الأخلاقية؛ التي تعني رفض التجنيد الإلزامي، عبر أربع حزم معرفية وتطبيقية مختلفة: الأولى تحليلات فلسفية وتاريخية لهذه المعارضة؛ بوصفها نقداً للخدمة العسكرية الإلزامية. والثانية باعتبارها نقداً للذكورية والتفرقة الجنسية. والثالثة باعتبارها حركة اجتماعية وفعل مقاومة فردياً. والرابعة بوصفها أيضاً تحليلا قانونيا لوضعية المعارضة الأخلاقية.
الضمير المقاوم
يقال إن هناك تعريفات للمعارضة الأخلاقية بعدد المعارضين الأخلاقيين، لكنها جميعاً تدور حول فكرة أن المعارضة الأخلاقية وجدت بسببٍ يتعلق بضمير الرافض أو قناعته الدينية أو السياسية أو الفلسفية.
وهناك نوعان من تلك القناعات التي يقررها الضمير، الأول: يرفض القتال باعتباره خطأ تحت أي ظرف، والثاني: أن اللجوء للقوة له ما يبرره في بعض الظروف الاستثنائية، وبالتالي لابد من الاعتراض في الحالات الأخرى، وهذا النوع يمثل معارضة جزئية لأداء الخدمة العسكرية.
هذه القناعات تدفعنا إلى واحد من أصعب أشكال المقاومة السلمية وأعقدها. وإذا كان بعض الباحثين يصفون “المعارضة الأخلاقية” اليوم بأنها صارت مجرد “رمل في الإطارات”؛ فإن آخرين يرونها من أكثر أشكال الفعل السلمي تأثيراً، وأعمقها مغزىً.
وتاريخياً؛ عرفت المملكة المتحدة 16 ألف معارض أخلاقي في الحرب العالمية الأولى، وزاد الرقم إلى 60 ألفا في الحرب العالمية الثانية، وفي حرب فييتنام بلغ عدد المعارضين الأخلاقيين في الولايات المتحدة أكثر من 200 ألف، بينما تعترف وزارة الدفاع الأميركية بأنّ السنوات الثلاث الأولى من حرب العراق شهدت فرارَ ما يزيد عن ثمانية آلاف أميركي من الخدمة العسكرية! ويمكن سرد أرقام أكبر من ذلك إذا تعرضنا إلى البلدان الأخرى التي شهدت حروباً كبيرة.
وبالرغم من أن معظم الدول تقرّ نظرياً اليوم بهذا الحقّ؛ فإنها تطبيقياً لا تسمح به، فمن بين الدول الـ 192 الأعضاء في الأمم المتحدة، لا تعترف بالمعارضة الأخلاقية باعتبارها من الحقوق الإنسانية سوى 35% منها.
المجتمع المُعَسكر
في علم النفس الاجتماعي، تُعرّف عسكرة المجتمع بأنها صوغ الحياة اليومية بالبنى والممارسات العسكرية بغرض إقامة النظام وبقائه.
نشأ هذا التوجه بوصفه أحد الأعراض الجانبية لنشأة الدولة القومية الحديثة، عبر بث عقيدة القومية وتطور فكرة المواطنة، وفي البلدان التي يلعب فيها الجيش دوراً سياسياً بارزاً، مثل تركيا وإسرائيل وشيلي وباراغواي والكثير من دول العالم الثالث، تثير قضية المعارضة الأخلاقية نقاشاً واسعاً ولغطاً كبيراً، حيث يولد المواطن جندياً، ويصبح امتناعه عن التجنيد ضرباً من التهور، وربما الخيانة. لذا يقبع الكثيرون منهم في السجون، فيما تتم تصفية آخرين جسدياً لذات السبب!
وفي الدولة القومية يلتزم المواطنون بـ (عقد إجباري) مع الدولة، يحق للدولة بموجبه التحكم في الحياة والموت، ويتوسع نطاق ما يحق للدولة أن تطلبه عنوة من مواطنيها. فالدولة القومية آلية يتم تقديسها، لها الحق في إضفاء الشرعية على لجوء المواطن للقوة ضد أخيه المواطن (المعارض السلمي)، وضد مواطني الدول القومية الأخرى (الحروب)، وتمثل مئات المعارك التي خلفت ملايين الضحايا في الحربين العالميتين وغيرهما نماذج تاريخية لسلوك المجتمعات المعسكرة، التي تلقي بأبنائها إلى الهاوية من أجل معتقدات قومية يراها المعارضون الأخلاقيون: زائفة!
وفي هذا السياق فإن من بيدهم السلطة يحافظون على مكانتهم ونفوذهم وسيطرتهم على الجماعات الأدنى والتابعة بطريقتين أساسيتين، الأولى التهديد أو ممارسة القوة، والثانية: السيطرة على العقيدة ومضامين الخطاب الاجتماعي “الشرعي”. وفي العادة تستخدم مجموعات من (الخرافات) المتنوعة لتبرير سلوكيات الأنظمة العدائية وإضفاء شرعية على عسكرة المجتمع.
فإذا ما حدث خللٌ أو ضعفٌ في جانب تبرير استخدام القوة المفرطة تبريراً شرعياً، تتفلت هيمنة السلطة وتتراخى شيئاً فشيئاً، ومثال ذلك ما يُعتقد بأنه سبب فقدان فرنسا للجزائر سنة 1962، وهو أنه لم يكن الهزيمة العسكرية، بقدر ما كان عجز النخبة الفرنسية عن إضفاء شرعية أخلاقية على المذابح التي ارتكبتها القوات الفرنسية هناك!
موقف غامض
يسعى المعارضون الأخلاقيون إلى أن يسمعهم الرأي العام، فمع أن أصواتهم تظل مهمشة في الغالب وتقمع بقسوة في بعض الحالات؛ فقد نجحوا في بلورة خطاب معارضة مميز، حيث يبدأون بإعلان الالتزام بالعمل وفق “قواعد الضمير”، بما يعني أنه ينطلق من موقف ذاتي، حين يقرر الفرد ألا يطيع القانون الذي يفترض أنه يمثل “الخير العام” للمجتمع وألا يفي بالالتزامات التي يتطلبها حين يعتبرها الفرد ضارة بسلامته الأخلاقية.
أي أن هذا الخطاب ينطوي على كثير من الغموض في ما يتعلق بالصلات الممكنة بين “المعارضة الأخلاقية” و”العصيان المدني” و”مناهضة العسكرة” والفروق بينها! إنهم يطلقون على أنفسهم مسمى “معارضين أخلاقيين” بينما يتخذ فعلهم دائماً شكل “العصيان المدني”، بما يشكل خرقاً متعمداً ومعلناً ومبدئياً للقانون، وهؤلاء يبرزون الأسباب التي تبرر أفعالهم بمنظار راديكالي “مناهض للعسكرة” يرون من خلاله نظام الدولة الحديثة متعسكراً في جوهره.
موقع المرأة
يتعرض الكتاب في بعض مباحثه لموقع المرأة في مشهد “المعارضة الأخلاقية” باعتبار التجنيد عملا ذكوريا بالأساس. فقد تم استنطاق التاريخ ليبرز كيف تم استثمار المرأة في دعم فكرة التجنيد الإلزامي للذكور. حيث تحاول الأنظمة دائماً تمرير مفهوم أن الرجولة أو الفحولة لا تتم إلا بالانصياع العسكري!
وهناك سلوك فَضَحَ لجوء المنظومة العسكرية إلى استثمار النساء في إغواء الذكور لتحقيق مآربهن. ففي أثناء الحرب العالمية الأولى، كانت بعض النساء البريطانيات الأنيقات يرتدين ثياياً مدنية ويعتمرن قبعات، يقفن على نواصي الشوارع، ويقدمن ريشاً بيضاء لأي شاب يرتدي ثياباً مدنية تبدو عليه أمارات اللياقة البدنية، حيث تعد الريشة البيضاء رمزاً للهوان. وذلك لإحراج هؤلاء الشباب ودفعهم إلى الالتحاق بالجيش ليثبت رجولته! وبالطبع كان يقف بالقرب منهن بعض الضباط من مسؤولي التجنيد.
لكن حقيقة المرأة وموقفها تتجلى في بعض المواطن الصادقة، كتلك التي تدفع وزارة الدفاع الأميركية إلى إنفاق ملايين الدولارات لإقناع المرأة بوصفها أُمّاً بأن التجنيد سيجعل من أبنائها الذكور أكثر رجولة ونضجاً في معسكرات الجيش، مع عدم إغفال أن وزارة الدفاع تقوم بتنظيم (جماعة الحبيبات) لحشد صديقات المجندين لدعم مستقبل أصدقائهن في الجيش، وتنم هذه الحملات الإعلانية وجماعة الحبيبات عن قلق المخططين العسكريين من أن المرأة إن تركت لنفسها فلن تتكون لديها مفاهيم مُعْسَكَرة بدرجة كافية عن الرجولة!
وصل الأمر في روسيا، إلى أن هناك جماعة من النساء على مستوى قومي تطلق على نفسها مسمى “أمهات الجنود”، قامت هذه الجماعة بجهود كبيرة في فضح إهانة الجيش البدنية للمجندين من الذكور، وذهبت إلى أبعد من ذلك، حيث تعقد الندوات لتعليم النسوة كيفية الحصول لأبنانهن على الإعفاء حين تصلهم إخطارات الخدمة العسكرية.
تجارب مختلفة
يعرض الكتاب دراسات حالات في عدة دول، كالولايات المتحدة وإسرائيل وشيلي وباراغواي والمكسيك وإسبانيا واليونان وجنوب أفريقيا وغيرها. وأظهرت الدراسات كمّ التحديات التي مرت بحركات المعارضة الأخلاقية في أنحاء العالم. وتظهر بعض تلك التجارب اختلاف الظروف والمآلات، وهي دراسات تتيح الفرصة لاكتشاف أوجه الاختلاف والتشابه بين البنى العسكرية والمناهضة للعسكرة في تلك البلاد. وقد حظيت الحالة التركية بسهم وافر في الكتاب نظراً لتعدد الباحثين والناشطين الأتراك الذين أسهموا في عقد المؤتمر الدولي الأول عن المعارضة الأخلاقية في إسطنبول منذ عدة سنوات.
وأخيراً؛ يؤكد الكتاب أننا في عالم اليوم حيث تنحصر السياسة والقانون والاقتصاد في الإطار الليبرالي الجديد، وحيث يؤدي الظلم العالمي المقترن بالحروب إلى صراعات كبرى؛ تبرز الحاجة إلى نقاش علمي شامل حول المعارضة الأخلاقية من مناظير فلسفية وسياسية وتشريعية وعملية، وذلك من أجل نزع عسكرة المجتمعات.
وقد أفرز جهاد المعارضين الأخلاقيين العديد من النجاحات الدولية، إلى أن أصبحت المعارضة الأخلاقية حقاً مكفولاً في القانون الدولي بوصفها أمراً مشروعاً أو تعبيراً عن حرية الفكر والضمير والدين، وذلك وفقاً للمادة 18 من كل من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والمادة 10 من ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي، والمادة 9 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. ومن ثم يطالب النشطاء بحثّ البلدان على وضع أحكام للمعارضة الأخلاقية لأداء الخدمة العسكرية في قوانينها المحلية بأسرع وقت ممكن وتطبيقها عملياً.
(كاتب مصري)
العربي الجديد