المعارضة السورية.. المبتدأ والخبر
نال خبر إعلان المجلس الوطني السوري قدراً كبيراً من الترحيب واﻻرتياح في الأوساط المعارضة، فاجتماع أقطابٍ معارضة مختلفة ونجاحها في بلورة خطاب يحمل حدّا أدنى من المحتوى السياسي هو مطلب ملح منذ فترة مبكرة من اندلاع اﻻحتجاجات الشعبية في سوريا. المجلس الوطني كان خبراً أول أمس، أمس، اليوم بدرجة أقل، وربما لن يكون خبراً غداً إن استكان إلى التصفيق والترحيب ونسي أن افتتاح المحطة ﻻ يعني أن القطارات تتهافت. لقد أضاعت المعارضة السورية قطارات كثيرة وهي تبحث عن سكّة تلائم طباع أربعين عاماً من العمل السري والملاحقة.
ربما يكون المجلس الوطني جزءاً من خبر غداً إن سارت الأمور إلى حرب دونكيشوتية قوامها التشكيك والمزايدات المتبادلة بينه وبين هيئة التنسيق. إن حدث هذا فسيرى “طرفا” الحرب أن ﻻ رياحاً تحرّك طواحين الهواء التي يتخيلونها فوق رؤوسهم، بل أن شطراً من هذه الرياح قد يذهب باتجاهٍ ﻻ تشتهيه سفنهم.
جلّ إنجازات المعارضة السورية اليوم، بعد أكثر من ستة أشهر من اندلاع اﻻحتجاجات، أنها نجحت في أن تكون خبراً في غير موقف. لم تكن مبتدأً ﻻ في “صناعة” اندلاع اﻻحتجاجات، وﻻ في فهمها ومعرفة محركاتها وسيرها، وﻻ في التصدّي لمسؤولية تقديم غطاء سياسي للحراك الشعبي والتصدي ﻻنحرافاتٍ مؤذية، سياسياً وإنسانياً، تظهر في مناخ العنف الحاقد الأعمى، والذي يُسأل عنه، ويساءل، النظام وما حوله. تبدو معركة إدعاء الشرعية واحتكار تمثيل الخيارات الشعبية بين أقطابٍ لم تفعل، حتى الآن، أكثر من ظهورات تلفزيونيّة هنا و”نوتس” فيسبوكيّة هناك هزليّة بامتياز. في كلّ اﻻنتفاضات العربية لهثت المعارضات التقليدية خلف الحراك حتى انقطعت أنفاسها، أما في سوريا فقد افترشت المعارضة الأرض بانتظار أن يعود من ذهب إلى حيث ﻻ تدري.
قلتُ في أكثر من مناسبة أنني ضد القسوة على “المعارضة التقليدية” وضد تسفيهها وتحقير دورها من قبل بعض الأصوات الشعبوية التي تتكاثر هنا وهناك، والتي يشبه خطابها، كما ذكرتُ سابقاً، خطاب احتقار الثقافة والمثقفين لدى أتباع الأنظمة الشمولية وأولادها. نقد أداء المعارضه هذا ينبع من الإيمان بأن لها دورٌ في بلورة وتخطيط الاحتمالات المستقبلية ﻻ غنى عنه وﻻ بديل، خصوصاً في هذه الظروف العصيبة.
البلاد تغلي، والأخطار تحدّق بوحدة البلاد وسلامتها، والأفق في إجازة بلا راتب. المعارضة مطالبة بأن تفعل شيئاً لمرة واحدة وبقوّة.. مطالبة بمبادرة سياسيّة متكاملة ورؤية صريحة وواضحة لما ستكون خطة عملها في هذه الظروف، والتأكيد على “مرة واحدة وبقوّة” مرده أن التقسيط والتكرار للمؤتمرات والجلسات والمجالس قد أصبح كضربات مطرقة على مسامير الخيبة.
الأحداث تمضي إلى حيث ﻻ ندري، فالنظام استقال منذ اللحظة الأولى من احتمالات التصرّف كمسؤول عن دولة وشعب، ودخل في معركةٍ وجودية قوامها “أنا كما أريد أن أكون.. أو اللاشيء” وشرع يوزع الرصاص والدم والموت بتلذذ سادي وفاشي وصنع مناخاً ﻻ تُرجى فيه الكثير من العقلانيّة. لم يعد هناك وقت للمزيد من التخبط والجدالات البيزنطيّة (في “بيزنطا” وغير بيزنطا) التي ﻻ تعنى شيئاً إﻻ لمن يخوضها. إن نجاح المعارضة السورية في بلورة برنامج سياسي متكامل يهدف للحفاظ على وحدة البلاد ويقطع الطريق أمام أشباح النزاع الطائفي والحرب الأهلية والتدخّلات الخارجية، ودعم هذا البرنامج بخطوات عملية لتنفيذه وإقناع الشعب السوري به وحشد طاقاته لتحقيقه هو السبيل الأوحد الذي يحتمل فرص النجاح، نسبياً أو كلياً. باقي الاحتمالات مرعب، على أقل تقدير.
سوريا هي المبتدأ.. من، أو ماذا، سيكون الخبر؟
http://www.syriangavroche.com/