المعارضة السورية بحاجة إلى علاج نقاط ضعفها/ سميرة المسالمة
يجدر بي التنويه في البداية إلى أنني عندما أتحدث عن حال المعارضة السورية من موقع مسؤوليتي فيها، فإن حديثي يأتي من باب الحرص عليها، ومن إدراكي أهمية تطويرها، لذا فإن نقدي لا يعني تحميل المعارضة مسؤولية كل ما يجري، فالنظام هو الذي يتحمل المسؤولية عن كل ذلك وعن المأساة التي يعيشها السوريون، كما أن الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة تتحمل المسؤولية عن هذه المأساة، بسكوتها عن جرائم النظام (القتل والتدمير والتشريد)، وبعدم تقديمها الدعم اللازم والمناسب للسوريين ولثورتهم. ولا أريد أن أحمّل المعارضة فوق ما تحتمل، فلا إمكاناتها تسمح لها، ولا موازين القوى، ولا التدخلات الخارجية تمكّنها من ذلك.
إن نقدي المعارضةَ ينبثق من رؤيتي جوانب التقصير عندها، والطريقة التي تفكّر وتعمل على أساسها، باعتبار النقد ألف باء العمل السياسي، وترشيد الأفكار السياسية، ودلالة على حيوية الأحزاب السياسية، وطريقة لترسيخ الديموقراطية التي ندعو إليها.
ويأتي هذا الحديث بعد أكثر من خمسة أعوام على نشوء هيئات المعارضة التي توالدت تباعاً، أي بعد تجربة طويلة وشاقة وغنية وباهظة الثمن، كان يفترض أنها أتاحت للمعارضة مراجعة طريقها ومفاهيمها، وليس البقاء عليها، وإعادة إنتاج أخطائها وقصورها كما هو حال ممثليها، فما كان يمكن غض النظر عنه في البدايات لم يعد مناسباً الآن.
كلنا يعلم أن التجربة السياسية السورية المعاصرة قامت مع الثورة، وتمثلت في الكيانات السياسية التي تألفت ضمن إطاري «المجلس الوطني» وبعده «الائتلاف الوطني»، وهذه التجربة مع الأسف لم تقم نتيجة جهود قوى حزبية لديها تجربة سياسية سابقة، ولا على قوى معارضة منظمة لها امتدادات قوية في مجتمع السوريين، ثم إن عملية البناء هذه جاءت فوقية، ومن قوى خارجية، ما جعل مشكلة التكوين تشكل محور أزمة المعارضة، التي لم تستطع حلها أو تجاوزها حتى الآن.
ما زاد الطين بلة أن هذه التجربة لم تستطع أن تفرض ذاتها ومكانتها في تمثيلها السوريين، وفي تعبيرها عنهم، أو في قيادة كفاحهم ضد الاستبداد، إذ ظل طريقها محفوفاً بالمشاكل والتقصيرات، الناجمة عن ضعف تكوينها، وعن غياب روح الفريق فيها، وضعف إدراكها أهمية العمل وفق رؤية وطنية، بعيداً من الحساسيات والمصالح الخاصة أو الحزبية. وقد تفاقم الأمر -وليسمح لي الجميع بهذه المصارحة مع الهيئة التي أنتمي إليها، وهي «الائتلاف»- مع اعتبار المعارضة نفسها ممثلاً حصرياً للسوريين، في وقت كان مطلوباً منها الانفتاح على مجمل القوى والشخصيات الوطنية الفاعلة في المجتمع السوري في الداخل والخارج، إذ ثمة مئات من الناشطين الذين يمتلكون خبرات حزبية معارضة سابقة، ومعارف سياسية، ولديهم تاريخ نضالي مشرف، ما زالوا لا يجدون طريقاً، أو إطاراً، تفرزه المعارضة كي يعبروا من خلاله عن أنفسهم، أو يشاركوا من خلاله في الكفاح من أجل حرية شعبهم، وبخاصة أن المعارضة لم تستطع تقديم الحماية أو الدعم لكثيرين منهم، حتى في المناطق «المحررة»، ما اضطرهم للمغادرة إلى الخارج. وليتهم اكتفوا بذلك، بل دفع الأداء المتواضع للمعارضة هؤلاء الناشطين إلى الوقوف في مواجهة الكيانات المعارضة كمعارضين لها ولأدائها الذي دلت عليه نتائجها.
ما أود أن أؤكده هنا هو أن معارضتنا يعتورها الكثير من التقصير والمشاكل والثغرات النابعة منا، ومن نمط تفكيرنا، ومن طرق عملنا التي عفا عليها الزمن، مع أن مخلصين كثراً بذلوا وحاولوا، ولكن كل ذلك ظل بمثابة جهود فردية لم تستطع أن تفرض نفسها على مؤسسة المعارضة، التي نشهد كثيراً من مظاهر الانفلاش والمزاجية والفردية في عملها، مع غياب روح الفريق، وتفشي العلاقات الكيدية. ولعلي أعتبر ما حدث مؤخّراً في الحرب الكيدية ضد شخصية معارضة كسهير الأتاسي، مثلاً، موجهاً ضد كل السيدات في المعارضة، وبغض النظر عن تقييم أدائها، ولكن للتأكيد على أن الحرب جاءت ضد المكون النسائي السوري في المعارضة.
لا بد هنا من تكرار الحديث أيضاً، عن تقصير آخر للمعارضة السياسية يتعلق بضعف دفاعها عن المبادئ والأهداف التي انطلقت الثورة على أساسها في البدايات، والتي كانت تتلخص بإنهاء نظام الاستبداد، وتمكين كل أفراد الشعب السوري، بكل مكوناتهم الطائفية والإثنية، من الحرية والكرامة والديموقراطية والمواطنة المتساوية، في وطن يضمن التعددية والتنوّع. إذ إن تخلّي المعارضة السياسية، لأي سبب، عن أهداف الثورة لصالح خطابات فرضتها الجماعات المتطرفة، التي لم تحسب نفسها على المعارضة السياسية، ولم تنضوِ في أطرها، أضعف من مكانة «المجلس الوطني» ثم «الائتلاف»، لصالح الجماعات العسكرية، المتباينة المواقف بدورها، الأمر الذي جعلنا نتخبّط في أدائنا السياسي وفي أدائنا العسكري، ووضع علامة شك حول صدقية المعارضة، وأضعف من التفاف السوريين من حولها.
ولعل هذه الأوضاع بالذات، أي ضعف مكونات المعارضة، وضعف العمل كفريق، والافتقار إلى خطابات واضحة، والفجوة بينها وبين الشعب، هي التي ضعضعت مكانة المعارضة في تقرير مستقبل سورية والسوريين، بحيث بات هذا المستقبل يتقرر بيد القوى الخارجية، حتى من دون أن تعلم المعارضة بما يجري!
ليس المطلوب أن نندب هذا الواقع، ولا أن نعتب على هذه الدولة أو تلك، ولا أن نشتغل بالمناكفة مع بعضنا، أو أن نشمت ببعضنا في المعارضة، وإنما المطلوب وقفة صراحة مع الذات، وأن نقف بشجاعة أمام مسؤولياتنا، وأمام الواقع الذي وصلنا إليه، وأن نستخلص الدرس والعبر اللازمة، فالزمن لا يرحم، وتضحيات شعبنا تستحق منا ذلك وهو أضعف الإيمان.
آن لنا كمعارضة أن نخاطب شعبنا، وأن ننقد أنفسنا على تقصيراتنا، وأن نوضح للسوريين التعقيدات والصعوبات التي تحيط بقضيتهم. آن لنا أن ننتزع أنانياتنا وحساباتنا الشخصية وأن نذهب إلى معالجة تقصيراتنا، وإعادة بناء مؤسسات وهيئات المعارضة، على أساس الكفاءة والنزاهة والروح الثورية.
وباختصار، آن للذين ثاروا على الاستبداد وعلى احتكار السلطة وتهميش الشعب، ومن ساندهم في ثورتهم وتبنى أهدافها، أن يضعوا حداً للاستئثار بمؤسسات المعارضة، وأن يفتحوا هيئاتها للمخلصين والمجربين وأصحاب الكفاءات، وأن نعتمد في علاقاتنا مع شعبنا على قواعد التمثيل والديموقراطية والانتخاب حيث استطعنا إلى ذلك سبيلاً، في الداخل وفي الخارج.
لا بد من طرح موضوع استبدال القائمين على مؤسسات المعارضة جميعها لتتمكن هذه المؤسسات، عبر الدماء الجديدة، من عبور مأزقها وتجاوز عثراتها، فليس مقبولاً أن نتحدث عن تداول المناصب وتمثيل الشعب بينما نحن نمارس احتكاره عن قصد أو عن غير قصد.
* كاتبة وإعلامية سورية
الحياة