صفحات مميزةميشيل كيلو

المعارضة السورية بين نارين: ميشيل كيلو

ميشيل كيلو

يؤمن كثــيرون بضــرورة إخــفاء عيوبــنا ومشــكلاتنا الذاتية، وأؤمن أن كشفها هــو الصــواب، وأنهــا تقتل من يؤجل مواجهتها أو يهرب ويتهرّب منها.

وكان هناك لفترة غير قصيرة مدرسة شمولية في السياسة ترى في أي حديث لا يقوم على إطرائها والإشادة بها، ولا يستر عيوبها، جريمة لا تغتفر وتزويداً للأعداء بمادة مؤذية لن يلبثوا أن يستعملوها ضد ما كانوا يسمّونه بخشوع «القضية»، وبالتالي خيانة للأمانة وغدراً برفاق ومناصري أحزابها وجمهورها.

يحدث الشيء نفسه اليوم بالنسبة إلى المعارضة السورية عامة و«الجيش الحر» وما يخالطه من جيوش غير حرة في ميادين الحرب والمقــاومة بصــورة خاصة. ثمة تجاوزات مخيــفة تحــدث في كل مكان، تتظــاهر من خلال محــاور ثلاثة: اشــتباكات تتكاثر بين كتائب «الجيش الحر» في أماكن عديدة، وخاصة في حوران وريفها. فلتــان أمني لا قيد عليه في مناطق تعتبر محررة، مع أنها مستعبدة تماماً من صعاليك فاسدين تحولوا إلى امراء حرب. واخيراً، اغتيالات وعمليات تشبيح واعتقال وخطف وتدمير وترويع تمارسـها تنظــيمات تابعة لكيانات سياسية خارجية، اصولية الهوية والطابع، لعبت دوراً كبيراً في تخريب بلدان إسلامية وعربية، وتشن اليوم حرباً متصاعدة ضد «الجيش الحر» بحجة تبعث على الضحك، هي أنه كافر.

وقد طرحت هذه الحال المدمرة سؤال «ما العمل؟» على الثورة، فأصابها طرحه بالحيرة والارباك، ما دام الرد على العنف بالعنف سيخدم النظام في الوضع السوري الراهن، ومثله السكوت على تقويض «الجيش الحر» وتصفية كوادره وتدمير قدراته وقطع طرق مواصلاته والانقضاض على قواعدة وقياداته، التي تستهدفها قوى مذهــبية ومــتزمتــة لم يخطر ببال أي سوري أن ثورتــه من أجــل الحرية، ستتحول إلى صراعات مذهبية وطائفية وتطرف أعمى سيخرج إن هي وصلت إلى السلطة، من «تحت الدلف إلى تحت المزراب»، كما يقول اللسان الشعبي.

هذه الحال، التي ننزلق منذ اشهــر عديــدة إليها، تم السكوت عليـها خلال فترة امتــدت لاشهــر عديــدة، فظن العالم أن «الجيش الحر» يحمي الأصولية، خاصة بعدما اطلقت تصريحات عاطفية وغير مدروسة صدرت عن قادة في المعارضة ومسؤولين في الجيش الحر، هوّنت من خطورة ما يجري من انحراف يبعد الثورة عن الحرية كهدف جامع لشعب سوريا الموحد، ويستبدلها بسياسات تقسيمية تمزيقية تشحن الثورة بخلافات وتناقضات تمعن في إضعافها وارهاق المقاومة وتقويض ما فيها من وحدة وتماسك. خلال هذه الفترة، تعالت اتهامات دولية للثورة، ضخمت حجم الظاهرة الأصولية، بينما صمتت المعارضة السياسية والعسكرية عن تبلور وبروز ظاهرة تنظيمية مذهبية مختلفة هيكلياً وبنيوياً عنها ومضادة لها، مع ان تشكلها وضع الثورة بين نارين وشكل عامل ضغط خطير عليها، يمكن ان يسهم في سحقها تحت الضربات التي ستتلقاها من فوق، على يد جيش النظام، ومن تحت، بقوة هذه التنظيمات التي تزيحها عن مواقعها المجتمعية، وتحل محلها سلطة ميدانية موجهة ضدها يعني قيامهــا طي صفــحة ثورة الحرية والكرامة والعدالة في المناطق التي ابتليت به.

كالعادة، لم يكن تقدير حجم الظاهرة وسرعة نموها صحيحاً. وتم التعامل معها بروحية تحاشت اخذ موقف واضح وعقلاني منها، يسورها بتدابير تحول دون تنامـيها، ويقيدهــا بسياســات تضــعها فــي مواجــهة الشــعب وتعزلـــها عــنه، تثلــم فاعلــيتها وصدقيتها لدى الناس وتكشف تناقض اهدافها وبرامجها مع اهداف الثورة وبرامجها، وتحاصرها بقوات متفوقة، تقيم افضل العلاقات مع المواطنين وتمدهم بالعون وتحميهم وتصون بيوتهم وممتلكاتهم من جموحها وفلتانها، وتبعد الشباب عن غوايات سلاحها ومالها السياسي، من دون أن تصطدم بالضرورة معها في كل مناسبة ومكان.

لم يحدث شيء من هذا. وحين بدأت الظاهرة تنتــشر وتستفحــل، تبــين ان ايجــاد حــل غــير عنيف لمشكلتها يكاد يكون مستحيلاً، وان الاخذ بحل كهذا كارثة يخشى الجميع عواقبــها، علما بان قضم «الجيش الحر» على أيدي هــذه التنظــيمات لم يتوقـف، وعجزه عن حمـاية منتــسبيه والسكان الراغبين في الخلاص منها فاضح واضح.

ماذا ستفعل المعارضة المستهدفة بجناحيها السيــاسي والعسكــري؟ لا أعرف شخــصياً ما يفكــر به الآخرون، لكــنني اعــتقد بضــرورة وضــع خارطــة معلومات دقيــقة ومدروسة تطــاول أعداد انتشار هذه التنظيمات واماكنها، ومصادر قوتها ونقاط ضعفها، والقائمين عليها والمنــضوين فيــها، وعلاقاتها مع الشعب، ونوع تسليحها ونمط تدريبها… الخ، على أن يكون لكل حادث حديث بعد ذلك، إن هي ظلت خارج مؤسسات الثورة عامة و«الجيش الحر» خاصة، وواصلت اعتداءاتها على المواطنين.

لا تجــوز الاستهانــة بما تفــعله هذه التنظــيمات ضد الثورة وبما أنجزته حتى اليوم من تهديد لوحـدة وسلامــة شعــب ســوريا ودولتــه. ولا يجــوز في جميع الأحوال الاستمرار في تجاهل مخاطرها، ومع أن البديل المتاح اليوم لا يجب أن يمــر بالــضرورة في شن حرب شاملة عليها تغطي كل مكان من أماكـن انتشارهــا، فإن تجــاهلها خــطأ قاتل، وخطأ بالقدر نفسه التعامل معها انطلاقاً من الفكرة التي ترى في التناقض مع النظــام أولوية يمكن أن يدفعها الاقتناع بها إلى مهادنة «الجيش الحر» وبقية أطراف المعارضة، فهي لا تعتبر هذا التناقض من أولوياتها، وتظن أن المعارضة جزء تكويني من النظام يحسن التصدي له والقضاء عليه ما دام هو الجزء الأضعف في بنيته، لذلك سيعني شطبها إضعاف السلطة القائمة وحرمانــها مـن طرف يخدمها ويقويها، فالأولوية في نظرها هي اذن لمقاتلة «الجيش الحر»، وحتى في حال قاتلــت النظام، فإنها تفعل ذلك لاعتقادها أن مقاتلته تقوّيها هي لانها تكشف تهاونه وتقوض مكانته لدى الشعب، وهذان امران يعدان في رؤيتها من مستلزمات إخراجه من ساحة العمل العام، وتبلور وضع تكون هي فيه القطب المقابل للنظام، فتدور المعركة الحقيقية لتحرير الشعب ضد هدف الجهاد الحقيقي: الكفر والزندقة، ولا يبقى غير القضاء على النظام قبل استعادة دولة الخلافة، التي سيعود التاريخ بقيامها إلى مساره الصحيح، وتنشأ الشروط الملائمة للجهاد ضد الكفر على مستوى العالم.

بتناقض أولويات «الجيش الحر» مع أولوية هذه التنظيمات، تنتفي إمكانية إقناعها بهــدنة تلــتزم بها ريثما يسقط النظام، وبأن ما تفعله يخدمه ويجعل يوم قيام الخلافة أو غــيرها من أشكال الحكم الإسلامي المطلوبة خارج متناول ايديها. بذلك، تواجه مؤسسات المعارضة السياسية والعسكرية سؤالاً مفصلياً حول موقفها من التخلق التدريجي لنظام مذهبي بديل يقوض الثورة من داخلها ويحرفها عن هدفها الاصلي ويزج بها في معركة جانبية ليست في اولوياتها، ومن غير الجائز أن تخوضها، لأنها ستدمر موازين القوى القائمة بين الشعب والنظام، وتهــدد قدرتــه على مواصــلة المعارك بالوتيرة التي نعيشها منذ عامين ونيف، واخذت تشهد بعض التوازن خلال الفترة الأخيرة، بعد تباطــؤ هجــوم النظــام الشامــل في كل مكــان، وما ادى اليه من نجاح نسبي في تحقيق انجازات وقتية على الأرض، ربما كان من اهدافها الرئيسة استبدال قوى الجيش الحر ووحداته بوحدات ومقاتلي هذه التنظيمات، التي يفضل النظام مقاتلة اصولييها على مقاتلة طلاب الحرية، لاعتقاده أن قطاعات واسعة من الشعب ستفضل بقاءه على قيام حكومة تديرها، ترفض مبدأ وفكرة الحرية، وتعتبرهما كفراً وزندقة لا بد من القتال ضد انصارهما وقتلهم.

لا يجوز ان يكون القرار المطلوب قصراً على فئة صغيرة بعينها، عسكرية كانت أم سياسية، فالقرار وطني الأبعاد والنتائج ولا بد من مناقشة مواضعاته على مستوى وطني شامل، يشترك فيه المقاتلون الميدانيون، والمجالس المحلية والتنسيقيات ومنظمات المجتمع المدني داخل سوريا وخارجها، وتنظيمات وفصائل المعارضة، وقادة «الجيش الحر»، ومواطنو المناطق الخاضعة لاستبداد وعنف التنظيمات الأصولية، التي تمارس انشطة محض ارهابية ضدهم، تستهدف اساساً اعداء النظام الأسدي ومن يقاومونه ويقاتلونه، ولا تستهدفه هو. ومن المنطقي والمطلوب أن تختار المعارضة لجنة خاصة تتفرّغ لجمع معلومات دقيقة وتفصيلية حولهم، وترسم سياسات تتخطاهم إلى الوسط الاجتماعي والثوري السوري، من شأنها عزلهم وكشف حقيقة سياساتهم ورهاناتهم وممارساتهم العسكرية، وتتكفل بتوعية الشعب بما يفعلونه، وبتعبئة حراكه المدني المتصاعد ضدهم في جميع مناطق وجودهم وكل مكان من سوريا، التي تجأر اليوم بالشكوى منهم.

لننتقل من الاستهانة بالخطر إلى مواجهته، ولنواجهه بصورة شاملــة لا تبقــي له ثغــرة ينــفذ منها او يتمكن مـن الالتفاف بواسطتها على ما بقي من الثورة، وهو ليس كثير، فإما أن ندافع عنه ونستعيد ما فقدناه منه، أو أن نسمح بالقضاء على الباقي منه، ونقر بهزيمة قوى الحرية ونعلن فشلها بلا مواربة.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى