المعارضة السورية: حدَثَ قبل ثلاثين عاماً / عمر قدور
قبل نحو عشر سنوات حوكم في مدينة حلب أربعة عشر ناشطاً سورياً أمام القضاء العسكري، على خلفية ذهابهم لحضور ندوة في منتدى غير مرخّص، في نهاية ما عُرف آنذاك بربيع دمشق. أهم ما في الحدث يومها هو استنفار ناشطين من مختلف مناطق سوريا للاعتصام أمام المحكمة وقت انعقاد جلساتها. فكرة الاعتصام بادر إليها ناشطون مستقلون، ثم تبنتها أيضاً جهات حزبية في مقدمتها حزب الاتحاد الاشتراكي الذي كان يهيمن على ما يعرف بالتجمع الوطني الديمقراطي المعارض. في أثناء جلسات المحاكمة التي امتدت شهوراً اندلعت الانتفاضة الكردية في الشمال والجزيرة فطرح ممثلو الحزب المذكور فكرة التوقف عن الاعتصام أمام المحكمة، تحت مقولة أن النظام يستشعر الخطر من الأكراد ولا بد أن يصعّد من أدائه القمعي ويستشرس إن اعتقد أن المعارضة تبتزّه في أوقات ضعفه. جوبهت الفكرة بالرفض، واستمر الإعتصام بعد طرح تساؤلات من نوع: متى إذاً تضغط المعارضة على النظام إن لم تفعل وهو في لحظات ضعفه؟ وهل كان الناشطون يعتصمون بإذن من أجهزة الأمن أو بناء على هامش مسموح به؟
أيضاً قبل أكثر من ثلاثة عقود، ومع بدء المواجهة بين النظام والإخوان المسلمين، تخلّى فصيل يساري هو “رابطة العمل الشيوعي” عن شعار إسقاط النظام، تحت مقولة أن التناقض الأساسي حينها بات بينه وبين الرجعية الدينية. وقتها أفرج النظام عن كوادر الحزب المعتقلة، وسُمح له بنوع من حرية النشاط “السري أصلاً”. استمرت فترة السماح التام حوالى ثلاث سنوات تقريباً، ثم عاد النظام إلى اعتقال عناصر التنظيم ليتمكن مع ربيع العام السابع 1987 من الإمساك تقريباً بمجمل بنيته التنظيمية، ولم يتوقف عن ملاحقة فلوله حتى عام 1992. قيادة التنظيم تشير إلى آلاف المعتقلين الذين سُجنوا تعسفياً بتهمة الانتماء إليه، وعدد كبير منهم فاق زمن اعتقاله العشر سنوات، قبل أن يُبدي النظام نوعاً من التساهل ويُفرج عن معتقلين من مختلف الانتماءات مع نهاية الألفية الماضية.
استرجاع الواقعتين السابقتين يبدو مهماً لفهم طريقة تفكير قسم من المعارضة بما أن هذين التنظيمين يلعبان دوراً رئيسياً الآن في ما يُسمى معارضة الداخل من خلال “هيئة التنسيق الوطنية”. فالهيئة، التي صارت تُعرَّف باعتدال خطابها، بدأت تتراجع منذ سنتين حتى عن الخطاب الذي رافق تأسيسها لصالح خطاب يركّز على “أخطاء” النظام والمعارضة معاً، ثم يدعو مؤخراً إلى اتحاد قوات النظام وكتائب الجيش الحر من أجل التصدي للكتائب الإسلامية المتطرفة بدعوى أن الخطر الأكبر يأتي الآن من التطرف الإسلامي.
من جهته، يلاقي النظام هذا الخطاب بتردد فيسبغ على الهيئة صفة “المعارضة الوطنية” أحياناً، ويعتقل بعضاً من كوادرها أحياناً أخرى، ولا يزال مصير عبد العزيز الخيّر “أحد أهم كوادر الهيئة” مجهولاً حتى اللحظة. تلك الاعتقالات لم تغيّر في التوجه السياسي لرفاق الخيّر في دلالة على مبدئية توجههم، وعندما طُرحت المبادرة الروسية لنزع أسلحة النظام الكيماوية تباهى قادةٌ في الهيئة بأنهم هم أصحاب الاقتراح الذي صار روسياً وجنّب “سوريا” الضربة الأمريكية، لكننا إذ نتحدث في السياسة لا نلمح مكسباً أتت به الهيئة لقاء تقديمها خشبة الخلاص للنظام، ولا حتى مكسباً تنظيمياً من قبيل الإفراج عن معتقليها.
المسألة برمتها تتجاوز الانتماءات والاصطفافات الحزبية الضيقة، ولكلّ من تنظيمات المعارضة مشاكله وعثراته بما في ذلك التنظيمات التي تتبنى أكثر الشعارات جذرية. المشكلة هي في تكرار ما أودى بجميع أطياف المعارضة قبل ثلاثة عقود، لا يقلل منها القول بأن الزمن قد تغير وأن النظام الضعيف اليوم لم يعد قادراً على تكرار تجربته القمعية السابقة. فالثابت حتى الآن أن النظام لم يتوقف عن ممارساته القمعية تجاه المعارضة كلها حتى في أوج انشغاله بالعمليات العسكرية، وأنه يقاتل من أجل بقاء النظام الأمني كما هو قناعة منه بأن استمراره رهن ببقاء أجهزته الأمنية. والأكثر وضوحاً أن النظام يستذكر تجربته القمعية في ثمانينات القرن الماضي ويعممها على كافة أنحاء البلاد، وإذا أتيح له البقاء فلن يقبل بتقاسم السلطة الفعلية سوى مع أمراء حربه الذين يدين لهم أولاً بالبقاء، وسيتفرغ وقتها لاجتثاث المعارضة ويودعها المعتقلات دونما تمييز بين ناشطين سلميين أو حملة سلاح، ودونما تمييز بين معتدلين أو “متطرفين”.
ثمة حسنة تُسجّل للنظام في الثمانينات، وهي أنه لم يكن قد بدأ الاعتماد على الميليشيات التي تُعرف بالشبيحة، وهذه الأخيرة أوسع انتشاراً وستكون ضريبتها أعلى بما لا يُقاس من أمراء حرب الثمانينات الذين كانوا مسؤولين وضباطاً كبارا. ضمن هذا الواقع تقع مسؤولية المعارضة، وفي المقدمة منها مسؤولية المعارضة التي اختبرت تلك المرحلة ويتعين عليها ألا تقع في الحفرة مرتين.
المدن
وهل أن المعارضة لم تقع في نفس الحفرة مرتين حتى الأن……..