المعارضة السورية: لن نتعلم/ عمر قدور
كما كان متوقعاً، أعلن العديد من المعارضين استقالتهم من ائتلاف المعارضة، وكما نعلم نال الائتلاف الحصة الأكبر من النقد جراء المآل الذي وصلت إليه الثورة السورية. كما كان متوقعاً أيضاً، لم يخرج الائتلاف ككتلة باقتراحات شجاعة للخروج من الخانة التي وضع نفسه فيها، أي باقتراحات جذرية تطال بنيته وآليات عمله، وتعني في ما تعنيه تنحي قياداته التي كرست تلك الآليات والعقليات المرتبطة بها.
للحديث عن الائتلاف وقع يختلف عن أطر معارضة أخرى، فهو قد سُوّق وقت ولادته كممثل شرعي للسوريين، وهناك 24 دولة غربية وعربية تعترف به على ذلك الأساس. ورغم تراجع العديد من تلك الدول فعلياً عن تبعات اعترافها، يجدر الانتباه إلى أن عددها لم يرتفع منذ التأسيس، ومن المرجح ألا تكون قيادة الائتلاف قد بذلت جهداً كافياً لنيل اعتراف أوسع. بل ما حصل فعلياً هو أن ذروة القبول الإقليمي والدولي تراجعت منذ لحظة التأسيس، وساعدت أوساط الائتلاف نفسها، بمشاكلها وانشقاقاتها والأداء الذي لا يتناسب مع منظمة ثورية، على إقلاع بعض الدول عن اعتباره بديلاً مقبولاً لحكم بشار.
تحت الائتلاف تنظيمياً هناك المجلس الوطني الذي لم تعد تُعرف وظيفته السياسية منذ تشكيل الأول، فالمجلس كما الائتلاف هو نظرياً يضم مجموعة من القوى المعارضة، وطُرح في بدء تشكيله كممثل للثورة السورية أيضاً. فوق الائتلاف، ربما، هناك جسم يُسمى “الهيئة العليا للتفاوض”، ولا نحتاج بصيرة لنرى تحوله جسماً سياسياً آخر، بمعزل عن مهمة التفاوض مع النظام التي يُفترض أنه أنشئ لأجلها فقط، ورئيس الهيئة يُستقبل في بعض الأوساط بوصفه ممثلاً للمعارضة ككل. وإذا كانت الهيئة تزيد في عضويتها عن المجلس والائتلاف بوجود تمثيل لهيئة التنسيق الوطنية، فما يقلل من قيمة التمثيل وجود انقسامات في هيئة التنسيق نفسها بين خط يجاري هيئة التفاوض وخط آخر يميل إلى التفاوض مع النظام خارج البنود المتفق عليها في بيان الرياض. أيضاً هناك الحكومة المؤقتة، من يذكر؟
ومع أن كثرة الأطر التنظيمية ليست سلبية بالضرورة في العمل السياسي، إلا أن تكاثرها وانقساماتها ومشاكلها في زمن الثورة لا يمكن أن يُعدّ بأية حال ملمحاً إيجابياً، بخاصة مع رؤية أغلب المعارضين أنفسهم كطبقة سياسية مستدامة، لا يأتيها التغيير من خارجها مثلما لا يأتيها من الداخل. الفشل وسط هذه الطبقة ليس سبباً للتغيير، هو غالباً سبب لانشقاقات جديدة ولكيل الاتهامات المتبادلة، فحيثما لم تكن هناك روح جماعية في العمل، على ندرته، لن تكون هناك روح جماعية في تحمل الفشل ومسؤولياته.
لا سر في القول بأن انقسامات المعارضة، فوق أسبابها الذاتية، تقع على خطوط الانقسامات والمصالح الإقليمية. وهذا قد يكون مرشحاً للتزايد قريباً، فأنقرة تبدو ماضية في التنسيق مع بوتين ضمن مخطط خارج الأمم المتحدة، ولحكم أردوغان كما نعلم العديد من الأسباب لمجاراة بوتين في تجاهل أوروبا والكيد للإدارة الأميركية، وسيجد بين المعارضين من يسير معه في التسوية الروسية. الهيئة العليا للتفاوض، التي أنشئت برعاية الرياض، قد لا تجد مكاناً لها عما قريب لأن مفاوضات جنيف المتعثرة أصلاً قد لا تنعقد مجدداً، وإذا انعقدت سيكون سقفها أدنى بكثير من بنود اتفاق الرياض، وسيكون هناك ضمن الهيئة من يقبل بالسقف المتدني وينشق عنها. لا يُستبعد أيضاً أن يعقد بعض التشكيلات العسكرية في الهيئة صفقته الخاصة مع النظام وحلفائه، مثلما لا يُستبعد القضاء على البعض الآخر في عمليات عسكرية قادمة.
حتى الآن، لا يبدو أن المعارضة تعلمت الدرس، أو استفاقت على الكارثة، واتخذت إجراءات بحجمها. المقدمات كلها تفيد بعدم التعلم مما جرى، وهذا الحال سيؤدي على الأرجح إلى تفاقم اليأس، فوق اليأس الذي تتسبب به الانتكاسات العسكرية وما يرافقها من عمليات تهجير وتغيير ديموغرافي. وقد يكون من دواعي السرور الضمني للمعارضة انتشار إحساس بأن القضية السورية خرجت نهائياً من أيدي السوريين، ما يعفيها من عواقب فشلها ويتركها عرضة للتقاعد البطيء والنسيان.
قد نصل عما قريب إلى وضع تكون فيه الثورة قد انتهت تماماً، دون أن تتجرأ التنظيمات الممثلة لها على إعلان الوفاة، ما لم يُنظر إلى المعركة ضد النظام بطريقة مغايرة لما حدث طوال السنوات الخمس الماضية. فخروج القضية السورية من أيدي السوريين يتطلب استعادتها، وأول خطوة على هذا الطريق إقصاء أولئك الذين يعبّرون عن إرادات إقليمية، وأيضاً عدم اتخاذ أي دولة إقليمية مركزاً ثابتاً لقيادات المعارضة لضمان عدم الوقوع تحت إملاءاتها. لقد ثبت تهافت القول بأن اتخاذ إسطنبول مركزاً هو بداعي القرب الجغرافي، وثبت أكثر أن لحكومة أردوغان ولأية حكومة تركية أخرى حسابات تتعلق بالأكراد أهم بكثير من القضية السورية برمتها، ولا يخفى تأثير هذا العامل على الطرفين الكردي والعربي في سوريا.
تكتسب العلاقة الإيجابية مع أية حكومة تركية صفة الضرورة من عدد اللاجئين السوريين أولاً، على ألا يصبح التحكم بالحدود وبالدعم العسكري باباً لتنفيذ الأجندات التركية. هنا باب آخر ربما حان موعد إغلاقه، وهو الارتهان لمصادر الدعم العسكري، وليس من الحكمة انتظار خسارات إضافية للقول بأن من دعموا تجربة المناطق المحررة قد انقلبوا عليها، أو باتوا يستخدمونها حصراً لأجنداتهم الخاصة كما تفعل أنقرة في تجربة “درع الفرات”. لن تكون هناك “مناطق محررة” سوى تلك المحمية بتفاهمات دولية وإقليمية، وهناك قرار دولي بالانتهاء من التجربة السابقة برمتها، وأي عمل عسكري لاحق لن يحافظ على استقلاليته إلا إذا كان بغنى عن مصادر التمويل المكلفة، ولن يستمد مشروعيته داخلياً إلا إذا حافظ على حيوات المدنيين واستهدف فقط المراكز العسكرية والأمنية لقوى الاحتلال الخارجي والداخلي.
تستطيع المعارضة الحالية تقديم خدمة قبل رحيلها، بناء على ما اكتسبته من علاقات دولية، تتمثل في إعادة القرار الديموقراطي إلى السوريين والدعوة إلى مؤتمر سوري عام خارج الإقليم كله وخارج دعم واستضافة دوله، تتقرر فيه استراتيجية المرحلة المقبلة، وتُقرّ فيه رؤية واضحة لمستقبل سوريا وتحولها الديموقراطي. لا يغيب عن الأذهان أن جزءاً من المشكلة، أو حتى إذا اعتبرناه جزءاً من الذرائع الدولية للإبقاء على النظام، كان يتعين في تهافت مؤسسات المعارضة أو تهافت ممثليها. دحض هذه الذرائع يستلزم جهداً وتمثيلاً مختلفاً، مثلما يتطلب وقتاً وتحيناً لظروف دولية مواتية قد يطول انتظارها، لكن حتى تُنتهز لا بد من تكريس العمل الوطني السوري وفرضه محاوراً محترماً.
لئلا تتكرر تجارب الانشقاق السابقة، ليس كثيراً على المعارضة الحالية أن تعمل قبل رحيلها على إنهاء الفراغ المدمِّر، الفراغ الذي تعين بوجودها.
المدن