المعارضة السورية من الحضور الرمزي إلى الحضور الاضطراري
عمر قدور
ليس جديداً القول بأن بنية النظام البعثي بطبيعتها تنفي وجود أية معارضة، من أي نوع كان، فالرؤية البعثية تبني أصلاً على مشروعية ثورية مدّعاة، وتأنف من فكرة المشروعية الدستورية التي هي عماد الحكم في الدولة الحديثة. الحزب القائد للدولة والمجتمع، كما يصفه الدستور السوري الذي بقي معمولاً به لأربعين عاماً، لا يأخذ شرعيته من الشعب بل من أيديولوجيته الخاصة، وعلى ذلك لم تكن العملية الدستورية برمتها سوى استئناس هامشي برأي الجماهير، وهذا بدوره قابل للتزوير؛ بل إن التزوير هنا هو الأصل.
سنتذكر أن معارضين سوريين قضوا سنوات طويلة في السجن بتهمة معاداة النظام الاشتراكي، ولعل هذه التهمة، التي تفصح عن نفسها بلا مواربة بأنها اعتقال على خلفية اختلاف الرأي لا أكثر، تقول باختصار ما يريد النظام قوله عن نفسه. في مثل تلك الظروف سيكون من البطولة أو الانتحار التفكير بمعارضة النظام على نحو ما يحصل في النظم الدستورية، مهما تدنت العملية الديمقراطية فيها، وهكذا كان إذ دفع المعارضون للنظام أثماناً باهظة؛ أثماناً تزداد فداحتها بالقياس إلى المردود السياسي الفعلي لها. ولعل أهم خلاصة خرجت بها تجربة المعارضة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي هي لا جدوى مقارعة النظام الذي يحتكر كافة مقومات القوة، ويمتنع عن أية عملية إصلاحية، بل غالباً ما كان المجتمع برمته يُعاقب بقسوة على أي تحرك معارض على الرغم من ضعف المعارضة المنظمة وهامشية حضورها في الشارع السوري.
في أدبياته يعرّف البعث نفسه بأنه صاحب أيديولوجية انقلابية، ويبدو أن الحزب عندما تسلم السلطة في انقلاب آذار 1963 قد فرض النزوع الانقلابي على مجمل التجربة السياسية الحزبية، إذ لم يعد في الساحة متسع سوى للأحزاب التي لا ترى سبيلاً للتغيير إلا من فوق، وتُضطر إلى توسل العمل السري لأن نظام البعث ألغى الحياة السياسية تماماً. في هذه الظروف صار انفصال المعارضة عن المجتمع هو القاعدة، ففقدت التنظيمات المعارضة إمكانية التفاعل السياسي مع جمهورها المفترض، وفي الواقع لم يعد بوسع أحد تقدير النسبة العامة لمعارضي النظام على الصعيد المجتمعي العام، فلا شك في أن المجتمع السوري شهد موجات كبرى مكبوتة من النقمة على النظام، ولكن لم يتح لهذه النقمة أن تخرج إلى حيز الفعل، ولا أن تعبر عن توجه أصحابها الحقيقي. إذاً بوسعنا أن نرى اللوحة التي ترسمت خاصة في سبعينيات القرن الماضي على النحو التالي: نظام انقلب على المجتمع السياسي؛ معارضة مقطوعة الصلات بالمجتمع السياسي التقليدي الذي انقلب عليه البعث، باستثناء الإخوان المسلمين إلى حد ما؛ أما المجتمع عموماً فيتدبر أموره في غياب تام للسياسة ويُضطر إلى التكيف مع سلطة الواقع والتسليم بها.
مع مستهل تسعينيات القرن الماضي بدا أن ما تبقى من المعارضة قد سلم بالأمر الواقع أيضاً، تزامن هذا مع بروز مشروع التوريث الذي لم يلقَ معارضة فعلية، بل كان بمثابة التتويج لانتصار النظام. بدءاً من هذه اللحظة سيتخلى الكثير من المعارضين السابقين عن أحلام وطموحات السبعينيات، وسيتم الإقرار بأن ما تبقى من المعارضة، وقد لا يتعدى هذا بعض الأفراد الشجعان، هو شأن رمزي أكثر من كونه معارضة فعلية. على ذلك لم تعد المعارضة في العقدين الآخرين تنظر لنفسها بوصفها مشروعَ سلطة بديلة، بل أصبحت تقرّ ضمناً أو علناً بضعفها وإنهاكها، وأيضاً بتسليمها بقدرها كمعارضة بلا طموح سياسي فعلي بالسلطة، وهو بالمناسبة طموح مشروع ومن الطبيعي أن تحمله المعارضة في أي نظام.
لعل المدخل السابق يفيدنا في فهم آليات جزء مما بات يسمى المعارضة التقليدية، فهذا الجزء لم يجد في الثورة فرصة أبعد من الإصلاحات التي ما كان يحلم بها حقاً، وأبعد من الحصول على نزر من كعكة السلطة، الأمر الذي لم يكن يحلم به أيضاً. من جانب آخر ينبغي ألا ننسى أن المعارضة فوجئت بالمجتمع الذي أُقصيت عنه سابقاً، تماماً كما فوجئ النظام به، فالثورة كانت إيذاناً بتقدم المجتمع المنفصل إلى حد كبير عن “النخبة” السياسية، وبدا الأخير كأنه يعوّض عن عطالته الإجبارية التي امتدت لنصف قرن بديناميكية يعجز قسم من المعارضة عن ريادتها، ويعجز قسم آخر حتى عن تمثيلها. لقد ظهر الانفصال جلياً في فشل الكثير من بقايا المعارضة التقليدية في أن تمدّ جسورها إلى الشارع، وظهر الفشل مضاعفاً لدى الذين أصروا على نخبويتهم السابقة، والتي هي الابنة الشرعية للعمل السري من جهة وللأيديولوجيات الشمولية من جهة ثانية.
لكن حضور المعارضة، وعلى الرغم من السلبيات السابقة، بدا مطلوباً أكثر من أي وقت مضى، لأن الثورة كانت بأمس الحاجة إلى تمثيل سياسي لها، ولم يكن القمع الوحشي الذي يمارسه النظام ليسمح للثوار بفرز الكوادر السياسية التي تمثلهم فعلاً. هنا أضاعت المعارضة التقليدية فرصتها التاريخية، إذ بدت عاجزة عن النهوض بمتطلبات الثورة، وأضاعت أيضاً الكثير من الوقت في محاولاتها الفاشلة لتشكيل أطر سياسية مواكبة للثورة، والأهم من ذلك بددت قسماً من الرصيد المعنوي للثورة في خلافاتها الموروثة من زمن الديكتاتورية، والتي للأسف بات لبعضها الأولوية على التناقض الرئيسي مع النظام.
لقد جاء قسم معتبر من المعارضة من على سرير الموت، ولم تنفع الثورة في إنعاشه. بل لعلها، بعد أن كشفت عن انتهاء صلاحية النظام بالمطلق، كشفت أيضاً عن انتهاء صلاحية معارضته. أما الحضور الاضطراري لهذه المعارضة فلا يعدو كونه طارئاً، وقد تجاوزته الثورة رغم الظروف التي تعيق فعاليتها السياسية؛ هذا لا يعني تماماً أن الثورة عثرت على العنوان السياسي الأنسب، بقدر ما يعني التخلي نهائياً عن العناوين التي أثبتت فشلها الذريع. من هنا يسجل للثورة قدرتها على تجاوز عثراتها، وعلى تجاوز عثرات المعارضة أيضاً، لأنها باستمراريتها وجذريتها كانت السباقة لفرض الأجندة السياسية المطلوبة.
هي حالة خاصة بالتأكيد أن نتحدث عن معارضة وعن ثورة، لكن هذا يبدو ضرورياً أيضاً لفك الالتباس بين الحالتين، مع الاحتفاظ بالتقدير للدور الرمزي للمعارضة في زمن سابق. فقد أثبتت الوقائع عدم إمكانية الزواج بين الاثنتين، وبقدر ما احتاجت الثورة إلى عنوان سياسي فهذا العنوان يفترق عن المفهوم السائد للمعارضة، بخاصة لأن المعارضة كما سبقت الإشارة قد حُرمت طويلاً من التفاعل مع الشارع. هذا لا يعني أن الثورة تنشئ معارضتها الخاصة، فالثورة على النظام الحالي تبتغي أصلاً إعادة السياسة إلى المجتمع؛ حينها فقط سيكون للسوريين أن يقيموا تمثيلاتهم السياسية الخاصة، وأن تتوزع هذه التمثيلات بين الحكم والمعارضة؛ وحينها فقط قد يكون بوسعنا الحديث عن معارضة لها حضور فعلي، لا معارضة لها حضور رمزي أو اضطراري.
خاص – صفحات سورية –